آخر الأخبارتحليلات و آراء

كيف منح عدوان غزة مصر قدرة على التفاوض مع المؤسسات الاقتصادية؟ الغرب بات أكثر استعداداً “للمساعدة”

كان الحديث قبل شهرين فقط منصباً على احتمال تعرض مصر لانهيار مالي، لكن اليوم أصبح العالم أكثر استعداداً لتقديم المساعدات لها، فما هي الأسباب؟

تناولت وكالة Bloomberg الأمريكية الإجابة في تقرير عنوانه مصر تحتاج المال وحرب غزة تمنح العالم أسباباً جديدة لمساعدتها”، يرصد كيف بدت مصر قبل شهرين وكأنها على مشارف خطر داهم يتمثّل في الانهيار المالي. أما اليوم فقد أصبح لدى العالم أسبابه الملحة حتى يهب لإنقاذها.

وربط تقرير بلومبيرغ بشكل مباشر بين العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي بدأ منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وبين هذا التحول الدولي تجاه وضع مصر الاقتصادي.

كيف “استفادت” مصر من العدوان على غزة؟

بشكل عام يتم شنّ الحروب لتحقيق أهداف. هذه هي القاعدة التي لا خلاف عليها. وفي هذا السياق، كانت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، والتي يترأسها بنيامين نتنياهو، قد أعلنت منذ عملية “طوفان الأقصى”، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة هو الهدف الرئيسي، واجتاح جيشها القطاع برياً لتنفيذ هذا الهدف.

و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.

ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات الغلاف، أعلنت دولة الاحتلال أنها في حالة حرب“، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.

وبحسب بلومبيرغ، جاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ليضع مصر في صدارة المشهد، حيث تُعَدُّ المنفذ الوحيد لوصول المساعدات إلى غزة، والمنفذ الوحيد لفرار الفلسطينيين المحاصرين. كما كانت مصر طرفاً، مع قطر والولايات المتحدة، في الوساطة بشأن صفقة تبادل الأسرى التي سمحت بالتوصل إلى هدنة بعد ستة أسابيع من العدوان. وصار عبد الفتاح السيسي فجأةً من الزعماء الذين يجب على قادة العالم زيارتهم.

ويُمكن ترجمة كل ما سبق إلى نفوذ لم تتمتع به مصر منذ عقود، رغم كونها أكثر دول الشرق الأوسط اكتظاظاً بالسكان، واستقرارها مهم كونها تتحكم في واحد من أكثر شرايين التجارة العالمية ازدحاماً. علاوةً على أن اقتصادها لم يكن في هذه الحاجة الماسة للمساعدة إلا نادراً، بحسب تقرير الوكالة الأمريكية.

غزة إسرائيل الاحتلال
نازحون فلسطينيون في رفح/ رويترز

حيث تظهر في جميع أنحاء البلاد مشروعات الرئيس السيسي باهظة التكلفة التي بدأت مع ولايته الممتدة لعقدٍ كامل، وذلك بالتزامن مع ضغوط متزايدة على موارد البلاد المالية وصعوبات يواجهها سكانها الذين تجاوزوا الـ105 ملايين نسمة.

وتجاوز معدل التضخم حاجز الـ35%، بينما أصبح سعر صرف العملة الأجنبية في السوق السوداء أعلى من سعرها الرسمي بما يزيد عن 60% (سعر صرف الدولار مقابل الجنيه رسمياً أقل من 31 جنيهاً للدولار الواحد بينما في السوق السوداء تخطى حاجز 50 جنيهاً)، فيما هربت رؤوس الأموال الأجنبية إلى الخارج لتترك مصر متعطشةً للدولارات.

وسنزيدك من الشعر بيتاً ونقول إن مصر قد تتخلف عن سداد ديونها الخارجية المقدرة بـ165 مليار دولار، ما يعني أن مصر لم تعد على خريطة المستثمرين فعلياً بعد أن جذبتهم في الماضي بفضل عائدات كانت من بين الأعلى في العالم.

هل مصر أكبر من أن تنهار؟

لا يزال تسعير الأسواق يتعامل مع هذه الاحتمالية بجدية، لكن الوضع ليس خطيراً بقدر ما كان عليه قبل اندلاع العدوان على غزة. وتراهن الأسواق الآن على أن الداعمين المحتملين صارت لديهم الآن دوافع أكثر إلحاحاً لتقديم بعض المال، وربما التساهل في الشروط المفروضة، بدايةً بالاتحاد الأوروبي ووصولاً إلى دول الخليج الغنية بالنفط.

وفي هذا الإطار، قالت مونيكا مالك، كبيرة الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري، لوكالة بلومبيرغ: “لا يريد أحد رؤية مصر تنهار الآن، أو رؤية أوضاعها الاقتصادية تزداد سوءاً”. وأردفت أن اندلاع الحرب يعني “استعداد المزيد من الشركاء الدوليين لتقديم دعمٍ إضافي على الأرجح”.

ولهذا بدأ عمالقة وول ستريت في التنبؤ بانحسار خطر أزمة الديون الفورية، بدايةً ببنك أمريكا ووصولاً إلى غولدمان ساكس، على الرغم من أن الوضع الاقتصادي لمصر لم يشهد بوادر تحسن، بل ربما يكون العكس هو الصحيح.

بينما يقول المسؤولون المصريون إن بلادهم لن تتخلف عن سداد أي من التزاماتها، وإنها استبعدت فكرة إعادة جدولة سندات اليوروبوند، بحسب مصادر مطلعةٍ على المداولات. وتخوض الحكومة حالياً محادثات لزيادة قيمة قرض صندوق النقد الدولي من 3 مليارات إلى 5 مليارات دولار، وهو الأمر الذي تقول مديرة الصندوق إنه “مرجح للغاية”.

مصر التضخم
ارتفاع الأسعار في مصر لم يترك أي من السلع الأساسية حتى الخبز/ رويترز

وقد وعد الاتحاد الأوروبي من جانبه بتسريع إجراءات دعم مصر بخطة استثمار تبلغ قيمتها نحو 10 مليارات دولار. بينما لم تتعهد دول الخليج بتقديم دعمٍ إضافي منذ بداية الحرب على غزة، وفقاً للمصادر المطلعة على المسألة، وستأتي أية التزامات جديدة كجزءٍ من صفقات الاستثمار الأوسع.

وحتى لو أسفرت الأوضاع الجيوسياسية عن منح مصر فسحة تنفس مالية وقدرة على التفاوض، فلا خلاف على تعرُّض السيسي لضغوط متزايدة من أجل تغيير مساره. إذ من المرجح أن يضطر لتعويم الجنيه مرةً أخرى بعد الانتخابات لتتفاقم أزمة تكلفة المعيشة في مصر، مع بيع المزيد من الشركات الحكومية، وبينها تلك التي يديرها الجيش الذي يمتلك شركات في مختلف الصناعات، بدايةً بإنتاج الغذاء ووصولاً إلى الإسمنت.

مشاريع ضخمة ومعاناة شعبية متزايدة

يُمكن القول إن خير مثال على طموحات الرئيس لتجديد مظهر بلاده هو المدينة التي لا تزال تحت الإنشاء في شرق القاهرة. إذ لا تزال تلك المدينة تُعرف باسم “العاصمة الإدارية الجديدة”، وتمتد على مساحةٍ تساوي أربعة أضعاف مساحة واشنطن العاصمة، كما تحتوي على أطول برج في أفريقيا.

وليست كل مشاريع البناء بهذه الضخامة؛ إذ سنجد المنازل والمدارس الخرسانية التي لم تكن موجودةً قبل عهد السيسي على بعد مئات الكيلومترات جنوباً، في سوهاج بصعيد مصر الفقير. لكن المكان يُعاني من نقص المدرسين ومواد البناء المستوردة، ما يُعطِّل أعمال البناء.

بينما يشعر السكان المحليون بالقلق حيال أمور أخرى؛ حيث لا يمتلك حسن علي حسن ماءً في منزله، ويُضطر الرجل البالغ من العمر 70 عاماً لإرسال أطفاله من أجل جلب الماء من النيل، حاملين الجراكن بطول ضفة النهر شديدة الانحدار ومروراً بطريق خطير.

الدولار
الدولار الأمريكي- (توضيحية) / رويترز

وفي قرية أولاد سلامة المجاورة، تقول صفاء (30 عاماً) إنها تعاني من أجل التكيّف مع “جنون الأسعار”. ولم يعد باستطاعة صفاء تحمل تكلفة ما تصفه بطعام الفقراء، وتقصد هنا المواد الغذائية الأساسية اللازمة لإعداد طبق الكشري، مثل الأرز والمعكرونة.

وجاءت كل جهود تجديد مظهر البلاد بتكلفة باهظة، حيث يعاني الحساب الجاري المصري من العجز لمدة تجاوزت عقداً كاملاً، وتضخَّمت أزمة الديون الخارجية بنسبةٍ تجاوزت الـ50% منذ عام 2019. وتُنفق الحكومة نحو نصف إيراداتها لسداد فوائد الديون.

وأسفرت الحاجة لسد فجوة التمويل هذه عن تحويل مصر إلى دولةٍ تقترض من صندوق النقد الدولي باستمرار. وبعد إبرام أربع صفقات قروض في عهد السيسي، صارت الأرجنتين هي الدولة الوحيدة التي تدين للصندوق بأموالٍ أكثر من مصر.

نهاية الأموال الساخنة

اعتمدت مصر على الأموال الساخنة من كبار المستثمرين في سد الفجوة لبعض الوقت. حيث كانت أسعار الفائدة أعلى من معدل التضخم، وعملتها مُقوّمة بالدولار، ما جعلها وجهةً مفضلةً في السوق. لكن تلك الاستراتيجية انقلبت رأساً على عقب عندما شنّت روسيا هجومها على أوكرانيا في فبراير/شباط عام 2022، وتسببت في ارتفاع أسعار السلع. وقد أخذت تلك الأحداث مصر على حين غرة، لأنها تحتاج للنفط المستورد وتُعَدُّ من أكبر الدول التي تشتري القمح في العالم.

وقد خرجت قرابة الـ20 مليار دولار من النقد الأجنبي بعدها خارج البلاد مع ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، ما أدى إلى تعويم العملة في ثلاث مناسبات خفضت قيمة الجنيه بمقدار النصف. وصارت مصر اليوم من الدول الموجودة في صدارة قائمة تضخم الغذاء على مستوى العالم.

إذ وصل سعر كيس السكر في الإسكندرية إلى 47 جنيهاً، وفي القاهرة إلى 50 جنيهاً أو أكثر. وتقول كريمة، وهي أم لأربعة أطفال، إنها تعتمد على الأكشاك المتنقلة التي يُديرها الجيش لشراء السلع الأساسية بأسعار مُدعّمة، ومنها السكر والخضراوات والفاكهة. لكن تلك المُنتجات تُباع بسرعة، لهذا يتعيّن عليها الاستيقاظ في الـ5:30 صباحاً لضمان مكانٍ لها قرب مقدمة الطابور.

علاوةً على أن أسعار الطعام والوقود المستورد سترتفع أكثر في حال قررت مصر خفض قيمة عملتها بشكل حاد، وهي الخطوة التي من المتوقع بشدةٍ أن يأخذها السيسي بعد الانتخابات. بينما حذر صندوق النقد الدولي من “استنزاف” الاحتياطي في سبيل حماية قيمة الجنيه. ومن المحتمل أن يكون التعويم المقبل هو الأكبر حتى الآن بناءً على أسعار السوق السوداء المحلية، التي تُقيِّم الجنيه بأقل من سعره الرسمي بنحو 40%.

ومن المحتمل أن يؤدي تعديل قيمة العملة إلى عودة بعض المستثمرين وتسريع عملية بيع المزيد من الشركات الحكومية المصرية، بما في ذلك عمليات البيع للمستثمرين الخليجيين المهمين.

وبهذا يُمكن القول إن العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة قد منح السيسي وضعيةً أقوى للتفاوض على التفاصيل، رغم أن ذلك العدوان قد يفرض بعض الضغوط المالية الجديدة على مصر، مثل خنق السياحة التي تُعد مصدراً مهماً للعملة الأجنبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى