مِنَ الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
الإضراب سبقه أجواء تحفيزيه وبسبب تواصل الانتفاضة وإن كانت بنهاياتها لكن قيادة الانتفاضة الموحدة ما تزال تصدر بياناتها الشهرية، ما ساعد على خلق أجواء خارج السجون تنتظر بدء الاضراب لكي تجدد الأنشطة الانتفاضية، كانت الحالة الجماهيرية في تأهب منقطع النظير، والأسرى على جاهزية عالية جداً، أي أن العاملين الذاتي والموضوعي مهيئه تماماً، ويضاف السبب المتعلق بتغيير حكومة الكيان الصهيوني والتي تعوّل أطراف فلسطينية على تحقيق نتائج من المفاوضات معها، وقد وجدوا أن اضراب الأسرى قد يعرقل الأمر ويفشل مشروع التفاوض.
فما إن انطلق الأسرى بإضرابهم الذي شمل كافة السجون تقريباً، أي حوالي عشرة ألاف أسير وأسيره بدوءا اضرابهم دفعة واحده، فجاءت ردة فعل إدارة السجون على عكس ما كان متوقعاً، أي لم تقم بعمليات تنقيل للأسرى وخلط للغرف بصرف النظر عن التنظيم، ولم تبدأ يومها بالتفتيش للأسرى ومصادرة أغراضهم كل أغراضهم تقريباً، ولم يسحبوا الأجهزة الكهربائية التي هي عباره عن الراديو والتلفاز والبطارية المستخدمة لهذين الجهازين، وبقي عمال المطبخ يخرجون للساحة بأريحيه، حيث يبقي اثنان أو ثلاثة عمال من الأسرى لطهو الطعام بالسجن، حينها العاملين بالمطابخ هم أسرى سياسيين وليس كما هو عليه الآن، يعمل أسرى جنائيون، ولم يتم إدخال عمال الممرات أو عمال الساحة أو أي عمال، لكن ردة فعلها كانت ناعمه جداً، وابقت الفورات كما هي والاوضاع بالسجون على حالها، وكأنه لا يوجد اضراب، وكان هذا مفاجئ جداً، ما أتاح للأسرى التواصل المباشر في ساعات الفوره. ولم تجري إدارة السجون تفتيشات استفزازيه للأسرى، ويتجمعوا في الباحة للاستماع لنشرات الأخبار خاصة اذاعة القدس التي كانت حديثة الانطلاق، والتي كان لها دور هام بانتفاضة الحجارة الأولى، ولها دور هام بانتفاضة الأسرى أي هذا الاضراب الذي نتحدث عنه.
صحيح أن كل هذه الاجراءات العقابية أنفة الذكر لم تقدم عليها إدارة السجون، لكن الصحيح أيضا أن الاضراب عن الطعام أمر قاس وموجع جداً، فبدأت معه آلام الرأس باليوم الأول وما تلاه، ثم بعد أيام قليله بدأت آلام المفاصل والعظام، فلولا الإرادة الصلبة التي يتمتع بها الأسير لصرخ من شدة الألم، لكنهم الأسرى كانوا يضحكون وكأن شيئا لم يكن.
ما هي إلا أيام حتى التحمت العديد من أمهات الأسرى بالإضراب، والمسيرات تجوب الشوارع والمواجهات مع جيش الاحتلال، بل في النصف الثاني من الاضراب اقتحم جمهور الأهالي الحواجز وألقوا الحجارة والمولوتوف على بوابات بعض السجون مثل سجن جنيد ونابلس وغيرها، نتيجة لذلك ارتقى شهداء من الشباب، لم تمض عشرة أيام على الاضراب حتى حضر وزير الشرطة الصهيونية إلى سجن جنيد للقاء ممثل المعتقل الذي كان في حينها قدوره فارس هذا المناضل الذي يشغل الآن رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين، له تاريخ نضالي حيث قضى خمسة عشر عاماً في سجون الاحتلال وهو يتمتع بروح وطنيه عالية. ودارت أول حوارات بين ممثل الأسرى والوزير الصهيوني الذي أعطى إجابات على بعض المطالب ورفض بعضها، ما جعل قدوره يرفض النتيجة ويصر على كل المطالب الواردة برسالة الأسرى التي وجهت لإدارة السجون، عاد قدوره للأسرى ليخبرهم بما دار بينه وبين الوزير، وكان الأخير قد اقتراح بتعليق الاضراب لمدة يومين لمنح الوزير فرصة ليرد على باقي المطالب بعد أن يتدارسها مع الجهات المعنية.
وفعلاً تم دراسة الاقتراح لدى أسرى جنيد وقبلوا الاقتراح، لكنهم اشترطوا أن يتصل قدوره بممثلي الأسرى بالسجون ليخبرهم بما وصل إليه مع قيادة أسرى جنيد، واستجابت إدارة السجون والوزير وفعلاً أجرى مكالمات تلفونيه مع كل ممثلي الأسرى في السجون، قبلت كلها ما عدا سجن نفحه الذي بقي مصراً على موقفه، بعد انتهاء اليومين لم يأت الرد المنشود فتواصل الاضراب أسبوعاً أخر حتى عاد الوزير مرة أخرى (إنها المرة الأولى التي يفاوض فيها وزير صهيوني الأسرى بمطالبهم وهم مضربين)، واستجاب لمعظم المطالب، ما دعا قدوره بعد التشاور مع ممثلي الأسرى في سجن جنيد إلى الاستجابة بتعليق الإضراب، لكن قبل أن يتم التعليق طلب أن يتحدث مع السجون مرة أخرى ويخبر مسؤولي لجان الحوار ويشرح لهم ما توصلت إليه المفاوضات، فتمت الموافقة على تعليق الإضراب من قبل كافة السجون باستثناء سجن نفحه، الذي رفض تعليق الإضراب حتى يتحقق مطلب زيارات الأقسام (أي تزاور الأسرى بين الأقسام أثناء الفورات).
واصلو الإضراب لعدة أيام حتى حضر الوزير إلى سجن نفحه والتقى مع الأسرى ووافق لهم على زيارات الأقسام ومطلب إزالة القضبان الحديدية بعد شهرين (طبعاً هذا المطلب لم يتم تنفيذه لأسباب أمنيه)، جدير الإشارة أن من كان يتحدث باسم الأسرى الرفيق جبر وشاح الذي تمتع بحضور وطني وقوة حضور أمام إدارة السجن وإدارة السجون.
في سجن بئر السبع وافق الرفيق القنطار على النتائج التي توصل إليها قدوره فارس بعد أن عاد إلى لجنة الحوار وأطلعهم على النتائج التي تحققت جراء حوار ممثل أسرى سجن جنيد، وتم الإعلان عن إيقاف الإضراب الذي استمر لستة عشر يوماً، كان الوقت ليلاً.
يعرف الأسرى بخبرتهم وتجربتهم أن الموافقة على المطالب شيئاً وتنفيذها شيء آخر، أي مطلوب نضال ومتابعات وممارسة ضغوطات على إدارة السجون كي تستجيب لتنفيذ المطالب التي تمت الموافقة عليها، فإدارة كل سجن تتحجج أن الوضع لا يناسب تنفيذها وتحتاج الى وقت، وتحتاج إلى حوارات مع اللجنة التي كان قد شكلها الوزير والمؤلفة من مدير مصلحة السجون الأسبق ومعه ضباط من إدارة السجون لتطبيق السياسات التي توافق عليها مع ممثلي الأسرى، فقد نفذوا الاتفاق في سجن ولم ينفذوا بسجون أخرى، وجاء التنفيذ تدريجياً وعلى فترة زمنيه ليست قصيره.
الشيء المهم أن هذا الإضراب لم تشهد الحركة الأسيرة بعمرها الممتد لأكثر من نصف قرن مثيلاً لنتائجه، فقد وافقوا على إدخال الملابس المدنية للأسرى وإدخال الهوايات أي المراوح، وإدخال القرص الكهربائي للطبخ بالغرف، ووقف التفتيش العاري، وزيادة وقت زيارة الأهل من نصف ساعه الى 45 دقيقه، والسماح بزيارات خاصه بالمناسبات العامة والخاصة لأعداد من الأسرى، وإطالة زمن الفورات، وتقليص أعداد الأسرى بالغرف أي تخفيف الازدحام، وقضايا صغيره كثيره، حولت حياة الأسرى الى حالة حلموا كثيرا بها، مثلا وافقوا على إدخال زيت الزيتون والليمون والزيتون والملوخية، وكميات بأصناف كثيره من مواد الكانتينا على سبيل المثال شراء الدجاج واللحوم والسمك مرة بالشهر، وشراء أصناف محدده من الخضروات، وتصوير الأسير وإخراج صوره إلى أهله، والتصوير مع ذويه عند الزيارة وغيرها من القضايا التي غيرت من وضع الأسرى للأفضل.
ولما تمت الموافقة على زيارات خاصه في بعض السجون عملوا على تنظيم الأمر ليطال الجميع، فالتقى الأسير مع والديه وتصور وإياهم، بعد أن كان مضى سنوات طويله على أسرى لم يلتقوا أهاليهم فقبلوا أيادي والديهم، واحتضنوا أطفالهم، كان انتصار كبير للأسرى.
وما هو إلا وقت قصير حتى تم الكشف عن مفاوضات أوسلو وما تمخضت عنه، ثم الإعتراف المتبادل هذا الإعتراف المهين والذي تنازل من خلاله فريق أوسلو عن 78 بالمئة من فلسطين حتى دون أن يحظوا باعتراف العدو بما تبقى منها لهم، الأجواء التي ولدها هذا الاعلان عباره عن وضع من الترهل والتراخي في صفوف الأسرى، فمنهم من أيد ما يحصل معتقداً أنها الطريق الذي سيقود الى دولة فلسطينية، ومنهم من ذُرفت دموعه بألم وحسره على نتيجة كهذه رغم عشرات ألاف من الشهداء ومئات ألاف الأسرى وغيرها، ومنهم خاصة أسرى المناطق المحتلة عام 1948 تساءلوا وماذا نحن فلسطينيو الـ 48 هل تخلت عنا م.ت.ف أم ماذا؟ هل نصبح مواطني دوله عند اليهود؟ … الخ، اعتقدت فئات من الأسرى أن الصراع انتهى، وما هو إلا وقت وسوف يتحرر جميع الأسرى، خاب ظنهم ولم يتحرر سوى عشرات أو مئات من فئة صغار السن، وطوي موضوع الأسرى حتى عام 1994 إلى حين توقيع اتفاق القاهرة حيث تم إطلاق سراح عدة ألاف من الأسرى ذوي الأحكام الخفيفة.
لم تمض سوى شهور قليله على انتهاء الإضراب حتى أعيد صاحبنا إلى سجن عسقلان، كجزء من إنهاء سياسة العزل وإخراج كافة المعزولين إلى أقسام السجون، طبعاً الحياه بالعزل شيء مغاير تماماً لحياة السجن، في العزل أنت لوحدك أو بأحسن الأحوال معك رفيق بالزنزانة، لا يتم إخراجك منها إلا لمدة ساعة أو أقل وعادتاً ما تكون أقل حسب مزاج السجان، لا تستطيع الطبخ لوحدك بل عليك تقبل أكل السجن كما هو، محروم من زيارة الأهل إلا في بعض الأحيان قد تكون كل شهرين مره، ومتاح لك زيارة المحامي مرة بالشهر، ممنوع من التحدث عبر فتحة الباب مع الزنازين الأخرى حسب مزاج السجان، العقوبات لأي أمر يراه السجان، في معظم الأوقات محروم من كل شيء إلا كاتبين يجيء لك بها السجان، وتخضع لتفتيشات يوميه، في العزل بعض الأسرى فقدوا عقولهم وأصيبوا بأمراض نفسيه، حتى إن واحداً منهم كان يرفض أن يخرج لزيارة والدته، وهي تبكي على باب السجن فيحاول الأسرى اقناعه دون جدوى، وبقي بالعزل لأكثر من عشرين عاماً حتى استشهاده.
يقال إن كل أو معظم الأسرى يصابون بأمراض نفسيه لأن الحياة خلف القضبان وبهذه الحدود الضيقة تؤثر على نفسية الأسير، أعتقد أن أبناء شعبنا خاصة أن مئات ألالاف منهم جربوا السجون إما أنهم تساموا على المرض أو أن كل شعبنا أصيب بالمرض، لكن تشبثهم بحقوقهم فاق أعراض أي مرض نفسي، فكلنا مهوسون بحب الوطن والتوق إلى الحرية.