45 دقيقة من الرعب.. ماذا دار في التسجيلات السرية لجريمة اغتيال خاشقجي كما سمعها شهود عيان؟
في الذكرى الأولى لرحيل الصحفي السعودي جمال خاشقجي التقى موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC مع عدد من الإعلاميين والناشطين الذين استمع بعضهم للتسجيلات التي حصلت عليها المخابرات التركية من داخل القنصلية السعودية التي شهدت جريمة اغتيال خاشقجي.
تقول مراسلة الموقع البريطاني: كنت أسير في شارعٍ تصطف على جانبيه الأشجار في منطقة هادئة في إسطنبول، واقتربت من فيلا لونها أصفر شاحب ومليئة بكاميرات مراقبة.
وقبل عامٍ واحد، كان الصحفي السعودي الراحل جمال خاشقجي في هذا المكان نفسه، حيث التُقِطَت له صورةٌ عبر كاميرات المراقبة، وقد كانت هذه هي الصورة الأخيرة له.
إذ دخل القنصلية السعودية وقُتِل على يد فرقة اغتيال.
لكنَّ الاستخبارات التركية حصلت على تسجيلات لجميع مراحل التخطيط للجريمة وتنفيذها. ولم يستمع إلى هذه التسجيلات سوى بضعة أشخاص، من بينهم اثنان تحدثاً عنها حصرياً إلى برنامج Panorama الذي يُعرَض على هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ماذا دار في التسجيل؟
وقد استمعت المحامية البريطانية البارونة هيلينا كينيدي إلى لحظات موت جمال خاشقجي.
وتحدثت عن ذلك قائلةً: «إنَّ رعب الاستماع إلى صوت شخص ما، والخوف في صوته، وأنَّك تستمع إلى شيء أثناء حدوثه مباشرةً، كل ذلك يجعلك تشعر بقشعريرةٍ في جسدك».
وذكرت كينيدي ملاحظاتٍ مفصلة عن المحادثات التي سمعتها بين أعضاء فرقة الاغتيال السعودية.
إذ قالت: «يمكنك سماعهم يضحكون. هذا فعلٌ تقشعر له الأبدان. لقد كانوا ينتظرون هناك وهم يعلمون أن هذا الرجل سيأتي وأنَّهم سيقتلونه ويقطعون جثته».
يُذكَر أنَّ كينيدي تلقت دعوةً للانضمام إلى فريقٍ ترأسه أغنيس كالامارد، المقرِّرة الأممية المعنية بقضايا القتل خارج نطاق القضاء.
وقد قالت لي كالامارد، الخبيرة في مجال حقوق الإنسان، إنَّها صمَّمت على استخدام تفويضها الخاص للتحقيق في عملية القتل، في الوقت الذي ظهر فيه تردُّد الأمم المتحدة في إجراء تحقيق جنائي دولي.
واستغرق إقناع الاستخبارات التركية بالسماح لها ولكينيدي، ولمترجمهما الذي يترجم إلى اللغة العربية، بالاستماع إلى التسجيلات أسبوعاً.
وقالت: «كانت نية تركيا الواضحة في السماح لي بذلك هي مساعدتي على إثبات سبق الإصرار والترصُّد».
45 دقيقة من الرعب
وذكرت أنَّ فريقها استمع إلى 45 دقيقة مُستخرَجة من التسجيلات التي سُجِّلت في يومين حاسمين.
يُذكَر أنَّ جمال خاشقجي ذهب إلى مدينة إسطنبول -التي يلجأ إليها معارضو الأنظمة في الشرق الأوسط منذ فترة طويلة- قبل بضعة أسابيع من مقتله.
وكان خاشقجي -الذي كان منفصلاً عن زوجته الأولى وله أربعة أطفال- قد خطب خديجة جنكيز الباحثة الأكاديمية التركية قبل مقتله بوقتٍ قصير.
وكانا يأملان أن يبنيا حياتهما معاً في هذه المدينة، لكنَّ خاشقجي كان يحتاج إلى الأوراق الرسمية التي تثبت طلاقه كي يتزوج مرةً أخرى.
وفي 28 سبتمبر/أيلول من العام الماضي، ذهب مع خديجة إلى مكتب السجل المدني التركي، لكنَّ موظفي المكتب أخبروهما بضرورة الحصول على الأوراق من القنصلية السعودية.
وقالت خديجة: «كان هذا هو الملاذ الأخير. كان عليه أن يذهب ويحصل على هذه الوثائق من القنصلية لكي نتزوج رسمياً لأنه لم يكن يستطيع العودة إلى بلده».
وبحسب مراسلة الموقع البريطاني فإن خاشقجي لم يكن منفياً منبوذاً من بلده دائماً. إذ التقيت به قبل 15 عاماً في السفارة السعودية في لندن. وكان آنذاك في قلب المؤسسة السعودية، إذ كان مساعداً لبِقاً للسفير.
وتحدثناً آنذاك عن هجومٍ إرهابي نفَّذه تنظيم القاعدة مؤخراً. إذ كان خاشقجي يعرف السعودي أسامة بن لادن، زعيم التنظيم، منذ عقود. وفي البداية، كان خاشقجي لديه بعض التعاطف مع هدف القاعدة المتمثل في إطاحة أنظمة الشرق الأوسط الاستبدادية. ولكن فيما بعد، انتقد فظائع التنظيم بينما أصبحت وجهات نظره أكثر ليبرالية، ودافع عن الديمقراطية.
وفي عام 2007، عاد إلى السعودية ليشغل منصب رئيس تحرير صحيفة الوطن الموالية للحكومة. لكنَّه أقيل منها بعد ثلاث سنوات بسبب ما وصفه بأنه «تجاوز لحدود النقاش داخل المجتمع السعودي».
وبحلول عام 2011، ألهمت أحداث الربيع العربي خاشقجي ودفعته إلى انتقاد النظام السعودي الذي كان يراه قمعياً استبدادياً. وبحلول عام 2017، كان قد مُنع من الكتابة وغادر البلاد ليعيش في أمريكا. ثم أجبِرَت زوجته على الطلاق منه.
وأصبح خاشقجي كاتب مقالات رأي في صحيفة The Washington Post الأمريكية، حيث كتب 20 مقالة رأي تتضمَّن انتقاداتٍ حادة في السنة التي سبقت وفاته.
خاشقجي لا يعرف الخطوط الحمراء
يقول صديقه ديفيد إغناتيوس، الكاتب البارز في الصحيفة، متحدثاً عنه: «عندما كان محرراً في المملكة كان يتخطى الخطوط الحمراء. وما رأيته مع جمال هو أنه ظل يضع نفسه في مآزق بسبب التعبير عن رأيه».
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من انتقادات خاشقجي كنت موجَّهة إلى الأمير محمد بن سلمان.
وصحيحٌ أنَّ ابن سلمان كان موضع إعجاب الكثيرين في الغرب، حيث كان ينظر إليه على أنه إصلاحي مُجدِّد يحمل رؤيةً جديدة لبلاده، لكنَّه كان يشن حملةً قمعية على المعارضة في السعودية، وكان خاشقجي يسلط الضوء على هذه الحملة في مقالاته بالصحيفة الأمريكية.
غير أنَّ هذه لم تكن هي الصورة التي أراد ابن سلمان عرضها.
ويقول إغناتيوس، الذي يزور السعودية بانتظام ويكتب عن سياستها: «أعتقد أنَّ ذلك أثار غضب ولي العهد على وجه التحديد، لذا ظل يطلب من مساعديه أن يفعلوا شيئاً حيال مشكلة جمال».
وبالفعل، سنحت للسعوديين في إسطنبول فرصة «فعل شيءٍ ما» حيال مشكلة خاشقجي، حين ذهب إلى القنصلية لاستخراج أوراق رسمية.
وفي يوم زيارته الأولى إلى القنصلية، اضطرَّت خديجة إلى انتظاره بالخارج.
وذكرت أنَّه خرج من المبنى آنذاك وهو يبتسم، وأخبرها بأنَّ المسؤولين فوجئوا برؤيته وقدَّموا له الشاي والقهوة.
وقالت: «لقد قال إنَّه ليس هناك ما يخشاه، وكان يفتقد بلاده جداً، لذا جعله استنشاق هواء وطنه المألوف هناك يشعر بالارتياح».
خطة الاغتيال بدأت من هنا..
طلب موظفو القنصلية آنذاك من خاشقجي العودة إلى القنصلية مرةً أخرى في غضون أيام قليلة.
ولكن فور خروجه من المبنى، أجريت مكالمات هاتفية مع مسؤولين سعوديين في الرياض، وكُلُّها سجِّلت على يد الاستخبارات التركية.
وتقول كالامارد: «المثير للاهتمام في هذه المكالمة الهاتفية هو أنها شهدت وصف خاشقجي بأنه أحد الأشخاص الذين تلاحقهم السلطات السعودية».
ويعتقد أنَّ المكالمة الأولى قد أخطَرَت سعود القحطاني، الذي كان أحد مساعدي محمد بن سلمان النافذين ومدير مكتب اتصالاته، بمجيء خاشقجي إلى القنصلية.
وأضافت: «لقد أمر شخصٌ ما في مكتب الاتصالات بتنفيذ العملية. ومن المنطقي أن نرى تلك الإشارة إلى مكتب الاتصالات على أنها إشارة إلى سعود القحطاني نفسه».
وأردفت: «لقد ذُكِر اسمه مباشرةً في عدة حملات أخرى ضد أشخاصٍ بعينهم».
وكان القحطاني قد اتُّهم من قبل بالتورط في اعتقال المعارضين في السعودية وتعذيبهم، مثل بعض الناشطات اللواتي تجرَّأن على قيادة السيارات قبل رفع الحظر عنها، وشخصياتٍ بارزة كان يشتبه في عدم ولائها.
يُذكر أنَّ خاشقجي اتهم القحطاني في مقالاته بتنفيذ عملياتٍ ضد أشخاصٍ مُدرَجين في «قائمة سوداء» لدى الأمير محمد بن سلمان.
ويقول إغناتيوس، الذي أجرى تحقيقاتٍ عن القحطاني: «بدأ القحطاني في تقديم خدمات استثنائية متمثلة في إجراء عملياتٍ سرية. ثم أصبح ذلك جزءاً من مهامه، ونجح القحطاني في إدارته بقدرٍ معين من القسوة».
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هناك تسجيلات لأربعة مكالماتٍ هاتفية على الأقل جرت في 28 سبتمبر/أيلول الماضي بين القنصلية والمسؤولين في الرياض. وتشمل هذه المكالمات محادثاتٍ بين القنصل العام ورئيس الأمن في وزارة الشؤون الخارجية السعودية، يُخبره فيها بأنَّ هناك مهمةً سرية للغاية جرى التخطيط لها، ووصفها بأنَّها «واجبٌ وطني»، بحسب الموقع البريطاني.
من الذي أمر بقتل خاشقجي؟
وقالت كينيدي: «لا أشك على الإطلاق في أنَّها مهمةٌ جاءت بأوامر من الأعلى، وأنَّ كانت مُنظَّمة للغاية، ولم تكن عمليةً مفاجئة ثانوية».
يُذكَر أنَّه بعد ظهر يوم 1 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، سافر ثلاثة من ضباط المخابرات السعودية إلى إسطنبول، من بينهم اثنان كان من المعروف أنَّهما يعملان في مكتب محمد بن سلمان.
وتعتقد كالامارد أنهم كانوا في مهمة استطلاع.
وقالت: «ربما كانوا يُقيِّمون مبنى القنصلية، ويحددون ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله».
وفي السياق نفسه، التقيت بضابط استخبارات تركي سابق لديه خبرة 27 عاماً، ويُدعى متين إرسوز، بحسب مراسلة الموقع البريطاني.
ويُعَد إرسوز خبيراً في شؤون المملكة العربية السعودية ومهمات عملياتها الخاصة. وأوضح أنَّ أجهزة الاستخبارات السعودية أصبحت أكثر عدوانية بعدما أصبح محمد بن سلمان ولي العهد.
وقال: «لقد بدأوا عمليات خطف المعارضين والضغط عليهم. لكنَّ خاشقجي تأخَّر في إدراك هذا التهديد واتخاذ الاحتياطات اللازمة، ودفع ثمن ذلك باهظاً».
صباح يوم الجريمة
في الساعات الأولى من يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، هبطت طائرة خاصة في مطار إسطنبول، وكان على متنها 9 سعوديين، بينهم طبيبٌ شرعي يُدعى صلاح الطبيقي.
وبعد التحقق من هويِّاتهم وخلفياتهم، تعتقد كالامارد أنَّهم كانوا أعضاء فرقة الاغتيال السعودية.
وقالت: «نُفِّذَت العملية بأيدي مسؤولين حكوميين كانوا يتصرفون بصفتهم الرسمية».
وأضافت: «كان اثنان منهم يحملان جوازات سفر دبلوماسية».
وقال إرسوز إن هذا النوع من المهام -أي العمليات الخاصة- يحتاج إلى موافقة من الملك السعودي أو ولي العهد.
ونزل السعوديون التسعة في فندق موفنبيك الكبير، الذي يقع على بعد بضع دقائق سيراً على الأقدام من القنصلية.
وتُظهِر كاميرات المراقبة فرقة الاغتيال وهي تدخل القنصلية السعودية قبل الساعة 10:00 بقليل.
ومن خلال الاستماع إلى التسجيلات، تعتقد كينيدي أنَّ ماهر عبدالعزيز المطرب هو الذي أدار العملية.
يُذكَر أنَّ المطرب شوهد عدة مرات وهو يسافر مع محمد بن سلمان ضِمن حَرَسه الخاص.
وقالت كينيدي: «قيل في المكالمات التي أجريت بين القنصل العام والمطرب: لقد تلقينا معلومات تفيد بأنَّ خاشقجي سيأتي يوم الثلاثاء».
وفي وقتٍ لاحق من صباح يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول، تلقَّى خاشقجي مكالمةً تدعوه إلى الحضور إلى القنصلية من أجل الحصول على وثائقه.
وبينما كان خاشقجي وخديجة يسيران نحو القنصلية، كانت هناك محادثة هاتفية مروعة صادمة تجري في الداخل بين المطرب والطبيب الشرعي صلاح الطبيقي.
وتقول كينيدي متحدثةً عن الطبيقي: «كان يتحدث عن كيفية تشريحه للجثث. ويمكنك سماعهما وهما يضحكان».
وأضافت: «كان يقول: عادةً ما أستمع إلى الموسيقى وأنا أقطع الجثث. وأحياناً أحتسي قهوة وأدخن السجائر».
ماذا دار في مكتب القنصل؟
ثم تكشف التسجيلات أنَّ الطبيقي كان يعرف الدور المطلوب منه، وفقاً لما ذكرته كينيدي.
إذ قالت كينيدي إنَّه قال: «هذه هي المرة الأولى في حياتي التي سأضطر إلى تقطيع جثةٍ على الأرض. فحتَّى الجزارون يحتاجون إلى تعليق الحيوانات لتقطيعها».
وكان هناك مكتبٌ مجهز للجريمة في الطابق العلوي في القنصلية، حيث كانت الأرضية مغطاة بأغطية بلاستيكية. وقد مُنِح جميع الموظفين الأتراك إجازة في ذلك اليوم.
وقالت كينيدي: «كانوا يتحدثون عن موعد وصول خاشقجي، ويقولون: هل وصلت الأضحية؟».
وكانت تقرأ لي ذلك من دفتر ملاحظاتها، والرعب واضحٌ في صوتها.
وتُظهِر إحدى كاميرات المراقبة خاشقجي وهو يدخل مبنى القنصلية في تمام الساعة 13:15 ظهراً.
وقالت خديجة: «أتذكر أننا كنا نسير هناك وأيدينا متشابكة، وحين وصلنا أمام القنصلية، أعطاني جمال هواتفه وقال لي: أراك لاحقاً يا حبيبتي، انتظريني هنا».
إذ كان خاشقجي يعرف أنَّ هواتفه ستؤخَذ عند مدخل القنصلية، ولم يكن يريد أن يطَّلع السعوديون على معلوماته الخاصة.
وتكشف التسجيلات أن هناك لجنة استقبال قابلته عند دخوله، وأخبرته بوجود أمرٍ من منظمة الشرطة الدولية (إنتربول) بالقبض عليه، وأنه يجب أن يعود إلى المملكة العربية السعودية.
وتُظهِر التسجيلات صوته وهو يرفض إرسال رسالةٍ إلى ابنه يؤكِّد فيها لأسرته أنَّه بخير.
ثم بدأوا يُخرسونه بالقوة..
وقالت كينيدي: «هناك لحظة يمكنك فيها سماع خاشقجي وهو يتحول من شخصٍ واثق إلى شخصٍ يشعر بالخوف ثم القلق ثم الرعب المتزايد، وهنا تعرف أنَّ هناك شيئاً مميتاً على وشك الحدوث».
وأضافت: «هناك شيءٌ مرعب بالتأكيد تسبب في تغيير نبرة الصوت. ويُمكن الشعور بوحشيته عبر الاستماع إلى التسجيلات».
القتل الغدر
ومن جانبها ذكرت كالامارد أنَّها ليست متيقنة من مدى دراية خاشقجي في تلك اللحظة بما يخطط له فريق الاغتيال، إذ قالت: «لا أعرف ما إذا كان قد عرف آنذاك أنَّه سيُقتَل، لكنَّه كان يظن بالتأكيد أنهم يحاولون اختطافه. وسألهم في أحد التسجيلات: هل ستحقنوني؟ فقالوا له: نعم».
وقالت كينيدي إنَّها سمعت خاشقجي وهو يسأل مرتين عمَّا إذا كان يتعرَّض للاختطاف، قائلاً: «كيف يمكن أن يحدث ذلك في سفارة؟».
وقالت كالامارد: «الأصوات التي تُسمع بعد هذه اللحظة تشير إلى أنَّهم كانوا يخنقونه، ربما بكيسٍ من البلاستيك فوق رأسه. وكذلك أغلِقَ فمَّه -بعنف- ربما بأيدي أحدهم أو بشيء آخر».
وتعتقد كينيدي أنَّ الطبيب الشرعي تلقَّى الأوامر في تلك اللحظة من قائد الفريق.
وقالت يُمكن سماع صوت أحد الأشخاص وهو يقول للطبيب: «قطِّع جثته»، ويبدو أنَّه صوت المطرب.
وأضافت: «ثم صاح أحدهم قائلاً: انتهى الأمر، فيما صاح شخصٌ آخر: انزع ذلك عنه. وضَع ذلك على رأسه. ولفَّه بغطاء. ولا يمكنني افتراض أي شيء آخر إلَّا أنهم كانوا قد قطعوا رأسه في تلك اللحظة».
أما بالنسبة لخديجة، فقد مضت عليها نصف ساعة فقط منذ تركها خاشقجي خارج القنصلية.
وقالت: «خلال ذلك الوقت، كنت أتخيل مستقبلي، مثل كيف سيكون حفل زفافنا. كنا نخطط لإقامة حفل صغير».
انتهت الجريمة
في حوالي الساعة 15:00، تُظهر كاميرات المراقبة سيارات تابعة للقنصلية وهي تغادر وتتوقف عند مقر إقامة القنصل العام على بعد شارعين.
ويدخل ثلاثة رجال وهم يحملون حقائب وأكياس بلاستيكية، تعتقد أغنيس كالامارد أنها كانت تحوي أجزاء من الجثة.
وبعدها تنطلق سيارة مبتعدة. ولم تظهر جثة خاشقجي أبداً.
وماذا عن منشار العظم المستخدم لتقطيع الجثة، التفصيل الأكثر إزعاجاً الذي ذكرته التقارير في وقت ارتكاب جريمة القتل؟
تقول هيلينا إنها لم تسمع في التسجيل ما يشير إلى استخدام مثل هذه الأداة الجراحية. لكنها تقول إنها سمعت صوت طنين منخفض، يعتقد ضباط المخابرات التركية أنه كان صوت المنشار.
وفي الساعة 15:53، تُظهر كاميرات المراقبة عضوين من فرقة الاغتيال يغادران القنصلية.
أعدتُ تتبع خطواتهما في الشارع على طول الكاميرات التي التقطت بدقة خط سيرهما بين القنصلية وقلب إسطنبول القديمة.
كان أحدهما يرتدي ملابس خاشقجي، لكنه كان ينتعل حذاءً آخر. أما الثاني، الذي أخفت القلنسوة وجهه، فكان يحمل حقيبة بلاستيكية بيضاء.
واتجها نحو الجامع الأزرق الشهير في إسطنبول. وحين ظهرا مجدداً، تغير مظهر الرجل الذي كان يرتدي ملابس خاشقجي.
وأوقفا سيارة أجرة لتقلهما إلى الفندق، وألقيا بالحقيبة البلاستيكية -التي يُعتقد أنها كانت تحوي ملابس خاشقجي- في صندوق قمامة قريب، قبل أن يتجها إلى أحد الأنفاق ويعودا إلى فندق موفنبيك.
تقول أغنيس: «خططوا كثيراً لإعطاء الانطباع بأن خاشقجي لم يصب بسوء».
وطوال هذا الوقت، كانت خديجة لا تزال تنتظر خارج القنصلية.
قالت: «انتظرت وانتظرت وانتظرت هناك بعد الساعة 15:30. ثم، حين أدركت أن القنصلية أغلقت أبوابها، اتجهت نحوها راكضة. وسألت لمَ لم يخرج جمال. ورد عليّ أحد الحراس بالقول إنه لا يعرف عم أتحدث».
اكتشاف الجريمة
في الساعة 16:41، شعرت خديجة باليأس واتصلت بصديق قديم لخاشقجي، كان قد أعطاها رقمه لتتصل به في حال تعرضه لمشكلة.
وهذا الصديق هو الدكتور ياسين أقطاي، وهو عضو في الحزب الحاكم التركي ولديه علاقات على أعلى المستويات.
يقول: «تلقيت مكالمة من رقم مجهول، وسمعت صوت سيدة لم أكن أعرفها تقول بقلق بالغ: خطيبي جمال خاشقجي ذهب إلى القنصلية السعودية ولم يخرج منها».
فسارع ياسين إلى الاتصال برئيس الاستخبارات التركية وأعلم مكتب الرئيس رجب طيب أردوغان.
وبحلول الساعة 18:30، كان أعضاء فرقة الاغتيال على متن طائرة خاصة متجهة إلى الرياض، بعد أقل من 24 ساعة من وصولهم.
وفي اليوم التالي، أصدرت الحكومتان السعودية والتركية تصريحات متناقضة حول ما حدث داخل القنصلية. إذ أكدت السعودية أن خاشقجي قد غادر القنصلية. فيما قال الأتراك إنه لا يزال في الداخل.
كانت الاستخبارات التركية قد بدأت بالفعل في فحص تسجيلات القنصلية، والتي منها المكالمات التي أُجريت قبل أربعة أيام من اختفاء خاشقجي.
فهل عرفوا في ذلك الوقت أن حياته كانت في خطر، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يحذروه؟
تقول أغنيس: «لا أعتقد أنهم كانوا على علم بما حدث. لا يوجد دليل يوحي بأنهم كانوا يستمعون مباشرة إلى ما كان يحدث».
وتضيف قائلة: «يُجرى هذا النشاط الاستخباراتي من حين لآخر، وقد يراجعون التسجيلات في حالة حدوث ما يستدعي ذلك. وكان مقتل خاشقجي واختفاؤه هو السبب الوحيد الذي دفعهم لمراجعة التسجيلات».
وتضيف مراسلة الموقع البريطاني يخبرني إرسوز أن زملاءه في المخابرات سابقاً راجعوا التسجيلات التي سبقت الحادث واستعرضوا ما بين 4000 إلى 5000 ساعة من التسجيلات للعثور على الأيام المهمة والـ45 دقيقة التي قُدمت إلى هيلينا وأغنيس.
محو آثار الجريمة
بعد أربعة أيام من مقتل خاشقجي، وصل فريق سعودي آخر، زعم أعضاؤه أنهم جاءوا للوقوف على حقيقة ما حدث.
تقول أغنيس: «قبل أن يتمكنوا من جمع بعض الأدلة، لم يكن ثمة شيء، ولا حتى أدلة حمض نووي تثبت أن خاشقجي كان حاضراً».
وتقول: «الاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن المكان نُظف جيداً وبطريقة تخفي أي أدلة جنائية».
في ذلك المساء، أبلغت السلطات التركية وسائل الإعلام أن خاشقجي قُتل في القنصلية السعودية.
تقول خديجة: «جمال لم يستحق أياً من هذا، لقد استحق ما هو أفضل بكثير. الطريقة التي قتلوه بها قتلت كل أملي في الحياة».
وأوقعت جريمة القتل التي حدثت في إسطنبول، وداخل سفارة تتمتع بحصانة دبلوماسية، السلطات التركية في مأزق.
وعلى الرغم من ضغط الأتراك المتزايد على السعوديين الذي استمر لأسابيع، رفضوا الاعتراف بجريمة القتل، قائلين في بادئ الأمر إنه كان ثمة «شجار بالأيدي» في القنصلية، ثم زعموا لاحقاً أنها «عملية مارقة».
واتبعت السلطات التركية استراتيجية تتمثل في تسريب بعض ما عرفوه للصحافة المحلية والدولية. وبعدها دعوا ممثلين من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA وعدداً قليلاً من وكالات الاستخبارات المنتقاة، التي من بينها المخابرات البريطانية، للاستماع إلى التسجيلات التي تثبت أن خاشقجي قُتل على أيدي عملاء حكوميين سعوديين.
وبحسب ما أوردته تقارير، خلصت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى استنتاج مفاده أنها متأكدة بدرجة «من متوسطة إلى مرتفعة» من أن محمد بن سلمان أمر بالقتل. واطلع أعضاء الكونغرس على هذا الاستنتاج ولم يساورهم أدنى شك في صحته.
اعتراف منقوص
في يناير/كانون الثاني، قدمت الحكومة السعودية أخيراً 11 شخصاً في الرياض للمحاكمة بتهمة قتل خاشقجي، وكان من بينهم المطرب والطبيب صلاح الطبيقي، لكن العقل المدبر المزعوم للجريمة -سعود القحطاني- لم يكن من بينهم.
لم يُدَن القحطاني أو يُستدعَ حتى للمحكمة لتقديم أدلة. وقيل إنه محتجز بمعزل عن الجميع، حتى عائلته، لكنه لا يزال على اتصال مع ولي العهد.
وتوصل تقرير أغنيس كالامارد لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى نتيجة حاسمة.
وتقول: «لا يمكن وصف هذه الجريمة بموجب القانون الدولي وتحت أي ظرف سوى أنها جريمة قتل نفذتها الحكومة».
وتضيف هيلينا أنه لا بد من اتخاذ إجراء حيال ما كشفته تسجيلات قتل خاشقجي.
وتتابع: «ثمة شيء شرير ورهيب حدث في تلك السفارة. والمجتمع الدولي يتحمل مسؤولية التمسك بإجراء تحقيق قضائي رفيع المستوى».
يُذكر أن تركيا طالبت بتسليم المتورطين لمحاكمتهم في إسطنبول. لكن السعودية رفضت.
ورفضت الحكومة السعودية إجراء مقابلة مع برنامج BBC Panorama، لكنها قالت إنها تدين «جريمة القتل البغيضة» وأنها ملتزمة بمحاسبة الجناة.
وقالت إن ولي العهد «ليس له أي صلة على الإطلاق» بما سمّته «الجريمة البشعة».
وختمت مراسلة الموقع البريطاني قائلة: بعد مرور عام، وبينما نغادر المقهى، كان بإمكاني رؤية الألم الذي ما زالت تعانيه المرأة التي تُركت وحيدة بعد إنهاء حياة خطيبها بوحشية بالغة.
وفي كلمات وداعها لي، نبهت خديجة جنكيز إلى الخطورة الحقيقية لجريمة قتل جمال خاشقجي.
إذ قالت: «إنها ليست مأساتي وحدي، وإنما مأساة للبشرية جمعاء، لكل الأشخاص الذين يفكرون مثل جمال والذين اتخذوا موقفاً مثله».