السترة الزرقاء
صباح حزين ودامٍ ودامع على قطاع غزة بعد استشهاد ثلة من الصحفيين، و باستشهادهم يرتفع عدد الشهداء الصحفيين والصحفيات والعاملين في المؤسسات الإعلامية إلى 238 منذ بدء حرب الإبادة على غزة؛ وهذه الأرقام المروعة تعكس نية واضحة على كتم صوت الشهود على الجريمة، ومنع توثيقها وتخويف كل من يحاول أن ينقل الحقيقة.
إن السترة الزرقاء لم تحمي الصحفي الشهيد أنس جمال الشريف بعد 674 يوماً من حرب الإبادة. رحل وترك لنا إرثاً صحفياً عالي المهنية والواقعية من رحلة نزوحه من مخيم جباليا إلى جنوب قطاع غزة.
لقد عايش المعاناة اليومية لشعب غزة من جوع وتشرد, ونزوح وإبادة وهدم المنازل على رؤوس قاطنيها. ورفع صوته لدرجه أصبح مبحوحاً على الهواء مباشرةً ليوصل للعالم (الحرّ) المشاهد المروعة للقتل والإبادة والتجويع.
أنس مارس مهنة الصحافة بعمر مبكر، ورحل بعمر مبكر، ونضجت تجربته بعمر مبكر وسلاحه الوحيد الكاميرا. مع العلم أنه تم اعتقاله، وأطلق سراحه وتم تهديده بالقتل إن لم يصمت. وكانت جريمته الوحيدة أنه شاهد على جرائم الحرب التي ترتكبها اسرائيل في القطاع.
لقد تحول أنس الشريف إلى صحفي مشتبك، كما قال الشهيد الناشط باسل الأعرج _وهو ناشط ومقاوم يحمل إجازة في الصيدلة، ولقب بالمثقف المشتبك لقدرته على الجمع بين الفكرة والميدان. وهذه رمزية المثقف والصحفي الفلسطيني الذي يقاوم ويوثق بالكاميرا، والصوت، والصورة والقلم، والكلمة والبندقية. وآخر ما كتبه الصحفي الشهيد أنس: “ستسجلكم ذاكرة التاريخ كشهود صامتين على جريمة الإبادة”.
إضافة إلى وصيته التي كتبها قبل استشهاده والتي نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية والتي أكدّ فيها: “ستبقى فلسطين درّة تاج المسلمين، ونبض قلب كل حرّ في هذا العالم، وأوصى بأهلها وأطفالها المظلومين، وبقرّة عينه ابنته شام، وابنه صلاح وزوجته بيان، وأمه التي ظهرت على الشاشة تقول أن أنس كان حنوناً على إخوته وجيرانه، لقد كان مظلة بعد استشهاد والده وأخيه الأكبر، وختم وصيته لا تنسوا غزة”.
يقول الصحفي وائل الدحدوح: “قدرنا كصحفيين فلسطينيين شهيد يعيش معه شهيد، ويودعه شهيد، ويدفنه شهيد”.
عند الصباح اغتالت إسرائيل ستة صحفيين في خيمتهم بجانب مجمع الشفاء الطبيّ، بينهم أنس الشريف و محمد قريقع وفريق التصوير. وقال الصحفي محمد قريقع قبل استشهاده: “إن رحلة النزوح كخروج الروح من الجسد، وهذا يذكرني بكلام صديقي الفلسطيني الصحفي والشاعر محمد الحسين الذي قال لي: “لن نترك غزة حتى لو استشهد منا مائة شهيد كل يوم، لن نكرر تجربة الشتات”.
إن هذا الاغتيال هو اغتيال حق كل إنسان في أن يعرف الحقيقة، واغتيال المادة الخام التي تبنى عليها العدالة. ووفقاً لمنظمات دولية، تعدّ هذه الاستهدافات الأكثر دموية للصحفيين بتاريخ النزاعات الحديثة.
وأخيراً، إن السترة والخوذة الزرقاء، والكاميرا تقودونا لكشف الحقيقة من خلال توثيق الجرائم للعالم الحرّ، والمجتمع الدولي الصامت الذي يتعامل مع كل جريمة اغتيال كـ”تريند”. لكن الشعب الفلسطيني ستبقى ناره وفكره ومفتاح عودته، وزيتونه وليمونه في جسده وروحه. وكما قال غسان كنفاني: “تسقط الأجساد لا الأفكار”.
باسل عليا… كاتب سوري.. سورية..