آخر الأخبارتحليلات و آراء

مِنَ الأسر

الأسير المحرر احمد ابو السعود

عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

معركة التحقيق يخوضها المعتقل منفرداً ومن خلفه قضية شعب بأكمله يدافع عنها، يستلح بإرادة الدفاع عن أسرار الثورة والحزب، ويواجه المحققين ممثلاً عن كل فلسطين، وهذا ما يزيد من قوته ويعينه على الألم والأوجاع والإهانات، فليس هناك أسوء من أن يبصق المحقق في وجه المعتقل أو في فمه أو يبول عليه وهو مشبوح مغطى الرأس وغيرها من الإهانات ومحاولات كسر المعتقل معنوياً، لكن المناضل لا يأبه لتصرفات حقيره كهذه ويعتبرها إعلان للفشل والإفلاس بعد أن تغلب على العديد من أساليب التحقيق الأخرى، بينما المحققين يشكلون جهازاً حكومياً يراكم الخبرة مثلما يراكم المحقق خبرة، وغالبية المحققين إن لم يكن جميعهم قد درسوا علم النفس، وتعلموا عن المجتمع العربي بعاداته وتقاليده وما الذي يغضبه أو لا يغضبه، وتأثير العامل الديني ومكانة المرأة الفلسطينية والعربية لدى الرجل وكثير منهم من حفظ الأمثال الشعبية، إضافة الى اسناد كل أجهزة الكيان الصهيوني من شرطه وجيش وعملاء وفي هذا الزمن التكنلوجيا التي طوعوها لخدمتهم، والأكثر أهمية بموضوع التحقيق العملاء أو من يطلق عليهم العصافير، وهؤلاء يحتاجون إلى مكان أرحب من هذا للحديث عنهم، باختصار إنها معركة حيوية للمعتقل وكذلك للمحقق، وكثيرون من المعتقلين من قدموا اعترافات نتيجة انعدام الخبرة ومن هم غير قادرين على الصمود أمام الأساليب القاسية والظروف المميتة أحياناً التي يعيشها المعتقل.
يتواصل التحقيق مع صديقنا وتشتد أساليبه يوماً إثر يوم، حيث تشديد المنع من النوم لثمانية أيام متتاليه حتى أصابته حاله من الهلوسة، فما عاد يعرف الوقت ولا الليل من النهار، بعد انقضاء وقت يقدر بنهار مشبوحاً وهو منهك القوى أدخله المحقق إلى غرفة التحقيق، ومارسوا عليه ضغوطات بكل أساليب التحقيق وتبدل المحققين وكل أصناف الضرب والإهانات لعدة ساعات متتاليه دون فائدة، وهذه الجولة الطويلة من التحقيق أنهكته كلياً عدا عن كونه منهكاً من الشبح لأيام وبدون نوم ولا طعام ولا شراب، وبعد أن يأسوا من انتزاع اعتراف منه قال له مسؤول التحقيق سوف نفاجأك ونؤكد لك بأنك من قام بتنفيذ العمل ومعك أخر وأن سيارتك هي التي تم استخدامها، سنحضر شاهداً كان حاضراً ولحق بكم حتى السيارة وستستمع إليه، فكان الرد عليه هذا غير صحيح لأنني لم أكن أنا ولا سيارتي، أدخلوا شاباً ووقف اثنين من المحققين بجانب من أطلقوا عليه لقب الشاهد وبدأوا يسألونه ماذا شاهد بيوم إطلاق الرصاص على اللحلوح، فقال من أطلق الرصاص كان يلبس كذا ومر من الشارع كذا وركض في بداية الأمر ثم مشى حتى وصل للسيارة وأعطى أوصافها، ثم سأله المحقق مرة أخرى هل تعرف هذا وأشار للمعتقل المكبل بالأصفاد فقال لا، وهل شاهدته أثناء إطلاق الرصاص فقال نعم وهنا كان الرد سريعاً من صديقنا الذي قال هذا عميل لقنتموه بما عليه أن يقول وكل ما قاله كذب وافتراء، وهذه الطرق لن تفيدكم، إن أردتم معرفة من نفذ العمل عليكم أن تبحثوا عنه فلست أنا من قام بذلك، أخرجوه سريعاً، وأخذوا يقولون الآن القضية ثابته لدينا شاهد وسوف يتم حكمك بكل الأحوال وفق قانون تامير ( قانون تامير يقضي بأن يتم الحكم على المعتقل حتى لو لم يعترف طالما هناك من اعترف عليه )، وتواصل التحقيق حتى الصباح بلا نتيجة.
اليوم التالي جاء به المحقق مرة أخرى لغرفة التحقيق وقال له سنقدم لك دليلاً جديداً على كذبك ونثبت لك أنك الفاعل، وسوف نخضعك لعملية الفحص على ماكنة فحص الكذب فهل توافق، رد مباشرة نعم أوافق لأثبت لكم أنكم مخطئين وبأنني صادق، كان صديقنا قد قرأ عن هذه الماكنة أو الآلة ويعلم أنها تقوم بوظائف قياس سرعة النبض ودقات القلب وغير ذلك وكل ما يحتاجه الإنسان أن يكون طبيعياً ويجيب بهدوء وبلا توتر، فعلاً تم أخذه إلى غرفة بعيده قليلاً عن قسم التحقيق وفق المسافة التي سحبوه خلالها مغطى الرأس، أجلسوه على كرسي وجاءه موظف طلب منه أن يكون هادئاً فهنا لا يوجد تحقيق وإذا يريد أن يخضع للفحص، فقال له لك الاختيار أن تقبل او ترفض، فقال نعم أريد ولست متوتراً، بعد أن شغل المحقق الماكنة وضع على أصابع المعتقل أسلاك وعلى جسده وطوال الوقت يقول له كن هادئاً وسوف اسألك أسئلة منها بسيط ولكن كلها تعرفها، والإجابة فقط بنعم أو لا، ممنوع أكثر من ذلك ، وشرع بالأسئلة أولها هل يوجد لمبة بالغرفة فجاءت الإجابة بهدوء نعم، هل لديك مسدس، لا وهكذا لمدة نصف ساعه تقريباً، بعدها أخرجه بعد أن فك الأسلاك عن جسمه، وأجلسه خارج الغرفة، مكث قرابة النصف ساعه ليرجع بعدها إليه المحقق ويقول أن خللاً حصل ونحن بحاجه لإعادة الفحص، وفعلاً أعيد الفحص مرة أخرى لكن بدى على المحقق توتراً وعصبية عكس ما كان عليه في المرة الأولى، صديقنا كلما سأله سؤالاً مباشراً عن العمل أو التنظيم أو إطلاق النار يجيب بهدوء تام وعندما يكون السؤال عن أمور عاديه يشد نفسه بعض الشيء وهكذا انتهى الفحص ( بالمناسبة كل مسؤولي أجهزة حكومة الكيان يتم اخضاعهم للفحص على ماكنة فحص الكذب بمن فيهم رئيس الحكومة )، أعادوه لقسم التحقيق ولم يسألوه عنا بتاتاً .
لم يعيدوه للشبح وإنما إلى الزنزانة وفي وقت توزيع الوجبات قدموا له وجبة، أيام عديده لم يدخل جوفه الطعام، وكان جل همه أن ينام ويرتاح قليلاً، ترك الأكل الذي هو عباره عن قطع قليله من الخبز مدهونه بالقليل من اللبنة، وعاد للنوم حتى الفجر استيقظ على طرقات قويه على الباب فنهض فورا واذا بالسجان يعطيه شفرة حلاقه ليحلق لحيته الطويلة والتي حولت منظره إلى من يعيش بغابه، استغرب من هذا التصرف وهو يسأل نفسه هل اقتنعوا بأنني بريء من اتهاماتهم أم أن هناك شرك معين، حاول أن يحلق شعر ذقنه الطويل لكنه لم ينجح بسبب طول الشعر، حاول مراراً جزه بمنطقه وعجز عن ذلك ما أدى الى ترك جروح بذقنه، لأن ماكنة حلاقه واحده لا تكفي ولأنه لا يوجد مرآة وإنما كان ينطر الى صفيحة من الألمنيوم بديل للمرآه، حين أخرجوه من الزنزانة وشاهده المحقق انفجر ضاحكاً وقال ماذا فعلت بحالك وأحضر له ماكنتي حلاقه وأخذه إلى حمام بالقسم فيه مرآه فحسن قليلاً من حلاقته، وبعد نصف ساعه أخرجه رجال البوسطه وساقوه الى المحكمة لتمديد توقيفه وطوال الطريق أوسعوه ضرباً وشتائم كنوع من التسلية حتى لايملوا لأن المشوار كان من القدس إلى نابلس وبالعودة نفس الشيء، وهناك جاءته محاميه تخبره بأنها ستترافع عنه بطلب من مؤسسة فلسطينية، أخبروه أنه ممنوع من الكلام، قدم واحد ممن كانوا بغرفة القاضي اتهامات وسأله القاضي هل تعترف؟ فنفى ذلك وأعيد الى البوسطه ليتناول وجبة الضرب على مدى ساعتين تقريباً طوال الطريق وأعيد مجدداً لمركز التحقيق.
أخبره أحد المعتقلين عما حدث معه وهما بالزنزانة بعد أن شاهد الضرب على أنحاء جسده، بما جرى له في مشوار له من مركز تحقيق لأخر، قال في الطريق وفي منطقة خاليه من المباني توقفت سيارة البوسطه التي تقل اثنين من المعتقلين، وبعد حركة وأصوات انزلوهم من السيارة وقالوا لهم أنها تعطلت وأخذوا كل واحد منفرداً حسب الضجيج مسافة بعيده عن الشارع، وربطوه إلى شجره وتركوه وبدوءا بإطلاق الرصاص، أعتقد الشاب أنهم سيقتلونه، قال في نفسه لعب المخابرات كثيره وعديده هدفهم من ورائها الحصول على المعلومات، وفي بعض الأحيان حصلت فعلاً عمليات قتل المعتقلين، فهي كثيرة عمليات القتل التي جرت بحجة أن المعتقل أراد الهرب.
أعيد الى التحقيق وقال له المحقق لدينا كل الوقت لنجعلك تعترف، وأعادوا التحقيق مراراً وتكراراً وبأساليب متكررة دون أن يحققوا شيئاً، وخف التحقيق معه فأوهموه بأنه اقترب من الخلاص من التحقيق، أخذوه إلى زنزانة بعيده نسبياً عن الزنازين القريبة من غرف التحقيق وإذا بصديق له بزنزانة أخرى غير التي وضعوه بها ، سلما على بعضهما وتحادثا مطولاً بأمور صداقتهما وعلاقتهما وأشاروا لبعضهما بإمكانية وجود جهاز تنصت، لكن للأسف لم يعيرا الأمر اهتماماً وواصلوا الحديث بأمور مشتركة تتصل بمعلومات عنهما وعن الأعمال التي نفذوها، باختصار وقعوا بالشرك، حتى الصباح أعادوه للتحقيق بشكل أكثر عنفاً ليعيش بأجواء ضاغطه وليؤكد على ما قاله من معلومات بعد أن اسمعوه صوته وصوت صديقه وهذا ما حصل في نهاية المطاف بأن أكد ما سمعوه وسجلوا عليه لائحة اتهام أودت به ليحكم بمدى الحياة، وبالتالي خسر المعركة جزئياً لأن ما بيننا حرب وجود أو لا وجود فإما نحن أو هم، وإذا كانت معركة التحقيق هذه قبل أربعين عام تقريباً ما يؤكد أن حربنا مستمرة ولن تنتهي إلا بانتصار شعبا.
جدير بالذكر أن صديقنا كان تعرض لاعتقال سابق وخاض ذات المعركة والشراسة ولفترة ثمانية عشر يوماً ولم يستطيعوا أن يحصلوا منه على أي معلومة، وخرج منتصراً، مثلما سجل حزبنا منذ منتصف السبعينات حالة صمود ميزت قياداته وكادراته والكثيرين من أعضائه عن باقي الفصائل، فمن كانوا يدلون باعتراف من الحزب إما أن يكونوا أصدقاء أو معدومي الخبرة وهم قله قياساً مع من حققوا انتصارات، وللوصول إلى هذه الحالة المميزة ارتقى شهداء للحزب في اقبية التحقيق منهم أبو خديجة وابراهيم الراعي والعكاوي وغيرهم كثيرين.
يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى