آخر الأخبارتحليلات و آراء

مِنَ الأسر

الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

تمضي الأيام بصعوبة وشعور بالإحراج مما ألت إليه نتائج الاضراب العام المفتوح عن الطعام في عام 2004، صحيح أنهم أعادوا السماح بزيارات الأهل، وكان صاحبنا لأكثر من أربعة أعوام لم يلتق أياً من ذويه، طبعاً أحدثوا تشدداً على إجراءات الزيارات أكثر مما كانت عليه الوضع في السابق، حيث وضعت إدارة السجون البلاستيك المقوى بديلاً للشباك الحديدي كفاصل بين الأسير وذويه، ويجري التواصل بينهما عبر سماعتي تلفون لاثنين من الزائرين مقابل الأسير، وإذا وجد ثالث سيبقى منتظراً حتى يتاح له فرصة الحديث، أو يتواصل مع الأسير بالإشارات.
صاحبنا حضرت لزيارته ابنته الكبيرة وكانت تصحب معها حفيدته الأولى بعد أن انقطع عن رؤيتها الأربع سنوات المشار لها، عادت به الذاكرة إلى أخر زياره لابنته وحفيدته في سجن عسقلان، حيث وصلت الحفيدة تبكي بكاء شديداً، وأمها منزعجه ووجهها أحمر، لأن ابنتها لا تريد أن تهدأ، فوقت الزيارة هذا وقت ثمين جداً لأنه لا يتعدى الخمس والأربعين دقيقة تأتي لزيارته كل سنه وربما أكثر، عدا عن الجهد المضني الذي يتم بذله بالباصات وعلى الطرقات والوقوف على الحواجز، ضحك لحفيدته وحاول ملاعبتها كي تتوقف عن البكاء، وأشار إلى بعض الأغراض كالشوكولاتة ليغريها إلا أن ذلك كان بلا فائدة، سلم على ابنته، لكن صوت الطفلة كان يزعج كل الأسرى وذويهم القريبين منها ومن جدها، فحاولت امرأه أن تحملها وتداعبها دون نتائج، بقي مشدوداُ للأجواء المحزنة التي خلقها بكاء الطفلة، وأمها تحاول معها بلا فائدة، حاول أن يتجاهل بكاءها ويحادث ابنته ليسأل عن العائلة والجميع، لكنها حين تجد أمها غير مكترثة لها تزيد من حدة البكاء.
مضت العشرة دقائق الأولى دون أن تصمت البنت، وبعد العشرة دقائق الأولى يسمحون بإدخال الأطفال دون سن السادسة ليقبلهم أباءهم أو أجدادهم، أدخلوها وهي بحال بكاء لم تتوقف، حملها وقدم لها الشكولاتة وقبلها وعانقها، وهي تتهرب منه ولا تتقبل البقاء معه، تتفلت وتذهب باتجاه والدتها، لكن الأمر يمنع عودتها، هكذا قانون السجان، أشغلته طوال العشرة دقائق الثانية دون أن تتراجع موجات البكاء، ثم بعد انقضاء الوقت طلب السجان إعادة الاطفال، فعادت إلى حضن والدتها وهي في حالة بكاء لم تتوقف، يسأل عن سبب كل هذا البكاء وبقي لا يعرف السبب، بدأ يتوتر لأن الوقت يمضي دون أن يشعر بطعم للزيارة، فالأسير قبل عدة أيام من موعد الزيارة يبدأ بالتفكير والتحضير لها ويجمع أفكاره وأسئلته وهدياه البسيطة إن وجدت، وأية قضايا حتى أنه يكتبها أحياناً على ورقه أو بقلم الحبر على يده كي لا ينسى، وهو بالفعل يفرغ الكثير من الشحنات العاطفية المختزنة، لأن الأسير جراء انقطاعه عن العالم وحجزه بمكان ضيق تتكثف لديه المشاعر فيصبح حساساً وعاطفياً، يبكيه بكاء طفل، أو مشهد في فيلم، كذلك لم يتلق أية أخبار من الأهل خلال الزيارة ولم يتمكن من نقل ما يريد، انتهت الزيارة على هذا النحو، الحفيدة دخلت تبكي وخرجت تبكي دون توقف، ووالدتها تشعر بأسف كبير لأنها عانت ما عانته ولم تتمكن من الحديث مع والدها بعد غياب طويل نسبياً، لوح لهما بيديه وخرج والدموع تكاد تنهمر من عيونه، مسّه حزن شديد على عكس بقية الأسرى الذين فرحوا بلقاء ذويهم وحققت زياراتهم غاياتها، رجع مهموماً، وكل من يسأل من الرفاق أو أصدقائه كيف الزيارة يجيب مليحه والأهل بخير، تمزق من داخله ألماً لبعض الوقت، وانتهى الأمر مع الزيارة لأن الأحداث لا تتوقف.
بعد الاضراب كما تمت الإشارة سمحوا بالزيارات وهو لا يدري من سيأتي لزيارته وإذ بابنته وحفيدته تطلان من باب الغرفة بعد أكثر من أربعة أعوام، لكن زيارة مغايره تماماً عن الأولى جاءت مبتسمه وتضحك مع جدها، وجاء موقع جلسته بغرفة الزيارة قريب من السجان المراقب بالغرفة، وبيده علبة كولا، فأخذت الحفيدة تنظر إلى علبة الكولا، فجذبت الابنة الحفيدة وقالت لها هل تريدين تكرار الزيارة التي ظللت تبكي فيها، إذن كان كل هذا البكاء بالزيارة إياها بسبب رؤيتها علبة كولا بيد السجان وتريد أن تشرب الكولا !!!!! تجاوبت مع والدتها لأنها أصبحت كبيره نسبياً وسارت الأمور على خير.
ذكر سابقاً أن مبنى سجن بئر السبع يضم عدة سجون بداخله، فترة شهور بعد الاضراب تم نقل صاحبنا من سجن ايشل إلى سجن اوهلي كيدار ببئر السبع، وكانت الأقسام التي انتقل إليها حديثة الافتتاح، عاش مع الرفاق ونظموا صفوفهم وبرامجهم ونظام حياتهم الداخلية، وكان يعلم صاحبنا أن ابنه صلاح قد اعتقل للمرة الثالثة، كان حينها طالب جامعي ونشيط في جبهة العمل الطلابية، لأن توقفه قصير يتم وضعه عادة في معتقلات وليس بسجون، يتواصل معه عبر الرسائل بين سجن وأخر، لكن في مساء أحد الأيام وكان صاحبنا يشارك بجلسة ثقافيه وإذا بالأسرى في الغرف الأخرى يتحادثون فيما بينهم بصوت يصل للجميع، عن قدوم بوسطه محمله بأسرى جدد، وفعلاً أدخلوا بعضهم إلى القسم العلوي الذي يتواجد به صاحبنا، ولأنهم قدموا من المعتقل الذي يتواجد فيه ابنه صلاح، أوقف الجلسة ووقف على الباب يستمع إلى مصدر المتحدث، فحدد الغرفة التي هو فيها ونادى على من يعرفه هناك وطلب منه أن يسأل القادم الجديد إذا ما قدم معهم شاب من عائلة صاحبنا، فرد بأن واحد ممن قدموا أخبرهم بوجود والده هنا في السجن وله بالاعتقال حوالي العشرين عاماً، هذا ما جعل صاحبنا يتابع الأمر ليتأكد إن كان ابنه أم غيره، فطلب من السجان أن يطلب له ضابط القسم، وفعلاً خلال دقائق كان موجوداً فأخبره صاحبنا أن ابنه وصل مع البوسطه قبل قليل وهو بالقسم السفلي ويريده عنده هنا، أجاب سوف أتأكد إن وصل فعلاً بعد أن أخذ اسمه كاملاً، ورجع بعد دقائق ليبلغ صاحبنا أنه فعلاً ابنه وغداً صباحاً سوف ينقله إلى غرفة صاحبنا.
كانت فرحة عارمه ليس فقط لصاحبنا وإنما لكل الرفاق بالغرفة والغرف الأخرى، فكثيراً ما يحدث تعاطف في ظروف عاطفية كهذه، وفي الصباح بحدود الساعة التاسعة كان موعد الخروج إلى الفوره، وإذا بالضابط يقف على باب الساحة ينادي على صاحبنا ويخفي خلفه صلاح، وصحبنا بحاله من التوتر والانفعال لم يشهدها من قبل، ولمح صلاح فاقتربا من بعضها وتعانقا طويلاً، وكل الأسرى والضابط والسجانون ينظرون إلى ذاك المشهد، ثم تمشيا بالباحة ومعهما الرفاق والأخوة الذين جاؤوا ليسلموا على صلاح ويهنؤوا والده، حتى انتهى وقت الفورة.
عاشا حوالي أسبوعين تقريباً بالتصاق، ومن خلاله تعرف على وضع العائلة وعلى الظروف التي مروا بها بعد انقطاع عشرين عاماً، (لأن الأهل عادةً لا ينقلون لابنهم الأسير الأخبار المتعبة كي لا يؤثروا على معنوياته)، هكذا يعتقدوا، عاش صلاح مع والده الكل منهما يحاول اكتشاف الأخر، فقد تركه طفل صغير، والآن بات رجلاً طويلاً وناضج وفي سنته الأخيرة أو قبل الأخيرة للتخرج من الجامعة، مضى على سكنهما بغرفة واحده أسبوعين، ثم قامت إدارة السجن كعادتها بالتنغيص عليهما بنقل صاحبنا وإعادته إلى سجن ايشل في بئر السبع، ومن هناك بدأ بتقديم الطلبات لجلب ابنه عنده، وتحقق له ذلك بعد فترة لا تقل عن شهر، وكانت المدة التي عاشوها بالسجن الثاني أيضا أسبوعين وربما أقل قليلاً، وتم نقل صاحبنا الى سجون الشمال وتحديداً إلى سجن جبلوع، واصل مطالبته بجلب ابنه، حتى تمت الموافقة على الطلب وأحضروه لكن ليس قبل الحكم وإنما بعد أن قدموه للمحاكمة وحكم قرابة العشرين شهراً، كان متبقي له شهرين، قضياها سوياً بغرفة واحده، وودع صاحبنا ابنه حين تحرر والدموع بمقلتيه، وعاش على ذكريات هذه اللقاءات المتقطعة لكنها كان تعالج شيئاً هاما في روح صاحبنا.
قد يكون الحديث سهلاً على من لم يعش مثل هكذا ظروف أو بأحسن الأحوال يتعاطف مع الأب المحروم من مشاركة أسرته عملية البناء والتربية والاهتمام …. إلخ فقد تصادف مرة أن جاء ابن أسير لزيارة والده، وكان عمره أقل من 18 عاماً أي بمفهوم الأسرى شبل، رفض الأسير الأب إلا أن ينام ابنه بحضنه ويناما على سرير واحد عرضه لا يتجاوز الـ 80 سنتمتر، وطوال وقت الفوره كان يراقب ابنه، حين لا يكون وإياه ولا يبعد أعينه عنه لحظه، يحاول أن يبقيه جوف أعينه طوال فترة الزيارة التي كانت لا تتعدى الـ 48 ساعه، هكذا صنع شعبنا أبناءه الذين قاوموا ويقاوموا الاحتلال جيلاً بعد، وكل هذا جراء الظروف الوحشية التي فرضها الاحتلال على أبناء شعبنا، ودائماً الاحتلال هو الأسوأ بتاريخ الأمم والشعوب خاصة حين يكون احتلالاً عنصرياً إحلالياً هدفه إفراغ الأرض من سكانها الأصليين بكل الطرق والوسائل حتى لو كان من خلال الإبادة الجماعية كما يشهد أبناء شعبنا الآن في قطاع غزه، لأنه مستعمر وسارق لكل حقوق الشعب الخاضع للاحتلال، وطوال قرن وأكثر من الكفاح والثورات والمقاومة من قبل شعبنا وشرفاء أمتنا وأحرار العالم سوف يتم اقتلاع هذا الاحتلال عن كامل أرض وطننا المفدى فلسطين وترجع حرة عربية تشكل القاعدة الأساس لإعادة بناء وحدة الأمه العربية لتأخذ مجدها بين الأمم المتحضرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى