الشوك والقرنفل.. رواية رجل عاش ومات كما أراد
رحل يحيى السنوار زعيم حركة حماس عن هذا العالم، ولم يكن أول مقاوم ولا آخرهم، في عالم يمضي كل شيء فيه نحو الفناء. لكننا هنا لن نحكي لكم عن موته، بل سنحكي كيف عاش، وهو يدرك أن الموت ليس هزيمة، بل واقع يواجهه بشجاعة تليق بوجود الإنسان. لذا، سنتتبع روايته “الشوك والقرنفل” لعلنا نكتشف شيئًا من فلسفة هذا الرجل تجاه الحياة والعالم من حوله.
يحيى السنوار، فلسطيني من مخيم خان يونس في غزة، رئيس حركة المقاومة الإسلاميّة “حماس”، قضى ثلاثة وعشرين عامًا من حياته في السجون، منها أربعة أعوام في العزل الانفراديّ، وعندما خرج من السجن في صفقة تبادل أسرى عام 2011 نفذ بعدها أكبر خدعة استخباراتيّة عسكريّة في تاريخ الاحتلال.
إذ باغت جيش الاحتلال الإسرائيلي في معركة سميت “طوفان الأقصى”، لكنّ عنوانها الحقيقيّ هو الأسرى، الّذين ظلّ السنوار وفيًّا لهم ولشعبه الذي مات بينه وهو يحارب بين صفوفه الأولى.
في عام 2004، وبعد عملية معقدة استغرقت وقتًا طويلاً واحتاجت إلى تضافر جهود العديد من الأسرى، حرر يحيى السنوار من السجن روايته “الشوك والقرنفل”.
تسلط هذه الرواية الضوء على جانب من نضال الشعب الفلسطيني، ممتدة من حقبة عام 1967 حتى “انتفاضة الأقصى”، مع التركيز على نشأة التيار الإسلامي في المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا حماس، في سياقاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية.
تبدأ الرواية بين جدران بيت في أحد مخيمات غزة، حيث تتشكل قيم الأطفال الصغار واختياراتهم، أطفال سيكبرون ليصبحوا شخصيات محورية في حركة المقاومة. ومن هذا المنزل تتسع الرواية لتشمل العائلة والجيران وسكان المخيم وكل القطاع والضفة وباقي الأرض المحتلة، حيث يمثل كل فرد منها حجرًا في بناء تجربة حركة المقاومة خلال تلك الحقبة المفصلية.
مقدمة الرواية
في مقدمة الرواية، يهدي السنوار هذا العمل لكل من ارتبطت قلوبهم بالقدس، من المحيط إلى المحيط.
ويقول ببساطة ووضوح: “هذه ليست قصتي الشخصية، وليست قصة شخص بعينه، رغم أن كل أحداثها حقيقية.” فكل ما أورده الكاتب من مشاهد حياة في روايته، كل ما ترويه هذه الصفحات هو انعكاس لحياة فلسطيني هنا أو هناك، قصص جمعها الكاتب من أفواه أصحابها كما ذكر.
فهو لا يختبئ وراء الخيال، بل يذكر في مقدمته أن الخيال الوحيد في العمل هو في تحويل الواقع إلى رواية تدور حول أشخاص محددين ليتحقق لها شكل العمل الروائي وشروطه. وكل ما سوى ذلك حقيقة عاشها بنفسه أو استمع إليها من أفواه أولئك الذين مروا بها، سواء كانوا هم، عائلاتهم، أو جيرانهم، على مدار عشر سنوات في أرض فلسطين.
في هذا السياق، نجد سليمان صالح أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، يكتب: “لا يمكن النظرُ في رواية “الشوك والقرنْفُل” باعتبارها عملًا أدبيًا.. هي رسالة للأمة (كل الأمة) لتفهم القضيةُ، كما يريد السنوار أن يشرحها.. فهو – وهو الدارس للغة العربية في الجامعة الإسلامية- اختار أن يستخدم الفصحى وحدها في السرد والحوار، وعندما يضطر لاستخدام اللهجة الفلسطينية، يعيد شرح التعبير باللغة العربية.”
وتشير الكاتبة الفلسطينية حنين عوض الله في مقال لها بعنوان “فلسفة حماس: السياسة والوجود عند يحيى السنوار”، أن الرواية التاريخيّة ليست مجرّد انعكاس لأحداث الماضي؛ بل هي استكشاف عميق للقوى الاجتماعية والفلسفية والأخلاقيّة الّتي تشكّل الحركات التاريخيّة. فالشخصيّات في الروايات التاريخيّة تجسّد وتخوض صراعات فلسفيّة في سياق عصرها. بكلمات أخرى؛ تشكّل الرواية التاريخيّة وسيلة لفهم العلاقة المعقّدة بين المعتقدات الشخصيّة والامتداد الأوسع للتاريخ.
لذلك، نجد الرواية بجانب التأريخ تركّز على التربية معتمدة على تحليل وتفكيك الأسباب و الواقع وتناقضاته.
رواية الشوك والقرنفل
تُروى القصة بلسان أحمد، ابن المخيم الذي فتح عينيه على قسوة الحياة من حوله؛ بدءًا من مخيم الشاطئ في غزة، مرورًا بالحرب التي سرقت والده المقاوم دون أثر. يتربى أحمد في منزل تآكله الفقر، بيت يسقط المطر من سقفه على الأسرة في ليالي الشتاء الباردة.
شقيقه الأكبر محمود، الذي درس في مصر وعاد مهندسًا، ينضم إلى حركة “فتح”. سجنه الاحتلال وعذبه بسبب نشاطه السياسي، لكنه قاد إضرابًا داخل السجن، نجح من خلاله في تحقيق بعض حقوق الأسرى، ليصبح رمزًا نضاليًا للأسرة ومحبوبًا فيها. ومع ذلك، يبقى محمود متمسكًا بمبادئ “فتح” ورؤيتها، ولا سيما الحلول التي طُرحت خلال تلك الفترة، بما في ذلك اتفاق أوسلو.
أما أحمد، الراوي، في البداية يعيش مراقباً بين طرفي نقيض: أخوه محمود المدافع عن أفكار “فتح”، وابن عمه إبراهيم، الذي يمثل التيار الإسلامي وينتمي إلى حركة “حماس”. تتأرجح مشاعر أحمد بينهما، وفي النهاية يتأثر بأفكار ابن عمه إبراهيم، ابن الشهيد الّذي تربّى معه في نفس البيت مع نفس الأمّ، وكبر ليصبح نموذج القائد الحقيقيّ.
وإبراهيم، هو الشخصية المحورية الأخرى في الرواية، يمثل القيادي الطلابي النشط الذي يحمل أفكار الحركة الإسلامية، ويجسدها عبر مواقفه وأفعاله طوال القصة. وقد اختار أن ينضم إلى المقاومة، وفي الوقت ذاته عمل في البناء لكسب رزقه بكرامة.
السياق التاريخي
تبدأ رواية الشوك والقرنفل في شتاء عام 1967، قبل النكسة بقليل، عندما كانت غزة تحت الإدارة المصرية. أحمد، الطفل ذو الخمس سنوات آنذاك، يسرد واحدة من أولى ذكرياته عن ذلك الزمن، حين كان شاهدًا على كل ما يجري حوله. اللحظة التي ترسخت في ذاكرته كانت لحظة الانكسار، حين احتلت إسرائيل قطاع غزة خلال حرب 67، وقد عبر أحمد عن تلك اللحظة بمشهدين محفورين في ذهنه.
المشهد الأول حينما تبدلت معاملة الجندي المصري له؛ بعدما كان يمنحه الحلوى ويربت على رأسه بمودة، نهره فجأة ليبتعد عنه عند اندلاع الحرب، خوفًا عليه من الخطر الذي بات يلوح في الأفق.
أما المشهد الثاني، فكان أفظع بكثير. حين قامت إسرائيل بجمع الرجال في مخيم الشاطئ، ممن تزيد أعمارهم عن 18 عامًا، وأخذوهم أمام ضابط مخابرات ليفحصهم بعينيه، ثم أُطلق النار على من تم اختياره باعتبارهم الأشداء. أما البقية، فقد سيقوا إلى الحدود المصرية وأُمروا بالركض، ومن حاول الالتفات، كان مصيره الرصاص.
“واجهت قوات الاحتلال مقاومة شرسة في إحدى المناطق وانسحبت. بعد قليل، ظهرت دبابات وسيارات جيب تحمل أعلامًا مصرية، فاستبشر المقاومون خيرًا بقدوم العون. خرجوا من خنادقهم، مطلقين النار في الهواء احتفالاً بالدعم. ولكن، عندما اقتربت القافلة، انطلقت منها نيران كثيفة لتقتل المقاومين. ثم رُفعت الأعلام الإسرائيلية على تلك الدبابات والآليات بدلًا من الأعلام المصرية.”
ويبدو أن السنوار اختار أن تبدأ أحداثُ القصة بعد عام 1967، وهو شخصيّة سياسيّة وعسكريّة بالدرجة الأولى، لتسجيل هذه المرحلة المفصليّة في تاريخ المقاومة المسلّحة ونقلها في هذا الشكل الإبداعيّ – الروائيّ، مشيرا إلى أنّها محاولة تتعدّى مجرّد تلاوة التاريخ ووقائعه.
إذ نجد الكاتب من خلال ذلك المشهد و كأنه يحاول أن يسترجع نقطة تحول أيديولوجية في النضال الفلسطيني في لحظة الإنكسار العربية، ليحلل رؤيته لتلك اللحظة التي وكأنها بداية انهيار الثقة بالقومية العربية كحل سياسي وفقاً لمنظوره، وبدء إدراك الفلسطينيين لعجز هذا التيار عن تقديم الجدية اللازمة تجاه القضية الوطنية، خصوصًا مع التصاعد الشرس للاحتلال.
فيوضح الكاتب بسرده في الشوك والقرنفل كيف أن الفلسطينيون وجدوا في الحركة الإسلامية آخر الحصون الاجتماعية التي صمدت أمام محاولات الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال. فارتباط الممارسة السياسية بالإيمان، ونقل مرجعية الوجود الفلسطيني وهدفه إلى الله، شكّل حاجزًا منيعًا لا يمكن للعدو تفتيته. الإسلام، بنظامه العصامي وأثاره في النفوس، أتاح للفلسطينيين بناء صروح سياسية ثابتة، تقف ضد محاولات تذويب الوعي وتحريف المسار.
لذلك، نجد أحمد عندما بدأ يستمع إلى ابن عمه إبراهيم، الذي انضم إلى مجموعة الشيخ أحمد ياسين، كان لهذا الحديث أثر عميق في نفسه. إذ نجد الراوي يقول عندما أنصت إلى شرح إبراهيم : “بدأنا نفهم أن للصراع وجهًا آخر غير ما كنا نعي وندرك من قبلُ. فالمسألة ليست فقط مسألة أرض وشعب طُرد من هذه الأرض، وإنما هي عقيدة ودين، معركة حضارة وتاريخ ووجود”.
هنا، يظهر الربط بين الدين والوطنية متجسدًا في فريضة الجهاد، حيث يمنح هذا الارتباط القداسة للمسعى الوطني، مما يزرع في نفوس الأفراد جدية صارمة تدفعهم إلى العمل بلا هوادة لتحقيق الهدف. هذا المزج بين العقيدة والوطنية منح القضية أبعادًا أعمق، إذ تجاوز النضال مجرد الدفاع عن الأرض ليصبح التزامًا دينيًا.
كما يعبر الراوي عن هذا بقوله: “حتى تأخذ المعركة بُعدها الحقيقي، وتكون بالمستوى المطلوب”. بهذا المعنى، تتحول المقاومة إلى أكثر من مجرد رد فعل على الاحتلال؛ تصبح واجبًا مقدسًا يضع على كاهل الفرد مسؤولية لا يمكن تجاهلها أو التساهل فيها، ما يعطي للنضال الفلسطيني طابعًا مصيريًا ووجوديًا.
تُظهر رواية الشوك والقرنفل كيف استطاع الفلسطينيون تحويل لحظات الانكسار إلى عزّة، بدءًا من معركة الكرامة عام 1968، حين اشتبكت قوات المسلحة الأردنية ومعها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية مع قوات الاحتلال الإسرائيلي وصدوها، مرورًا بانتشاءهم بعد انتصار 1973، وصولاً إلى بهجتهم بوصول أول صواريخ عربية إلى تل أبيب، التي أطلقها الجيش العراقي خلال حرب الخليج. ورغم أن تلك الصواريخ لم يسمع عن نتائجها حينها، إلا أن حالة الرعب التي أحدثتها في صفوف الإسرائيليين كانت كافية لتكشف للفلسطينيين هشاشة الدولة الإسرائيلية.
كما يقول الراوي: “صورة الهلع الذي هز عمق الكيان المغتصب قد زادت قناعة الناس بهشاشة هذا العدو”.
ومع ذلك، لا تقتصر الرواية على لحظات النصر والانتشاء؛ بل تسلط الضوء على أوقات الإحباط والقنوط أيضاً.
فمن جهة، يأتي الإحباط إثر اندلاع مواجهة بين الفلسطينيين والأردنيين في “أيلول الأسود”، ومن جهة أخرى، تشهد الرواية شعور الخيبة بعد إبرام مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل عام 1979، وما تبعَ ذلك من إجبار المقاومة على مغادرة لبنان عقب الاجتياح الإسرائيلي لها في 1982.
ثم تأتي اتفاقية أوسلو لتكون بمثابة نقطة أخرى من خيبات الأمل، حيث رأى العديد من الفلسطينيين فيها إطفاءً لنار الكفاح وإجهاضًا لآمالهم في تحقيق أهداف أبعد وأكبر.
رغم ذلك، يواصل أحمد، بعينيه المفتوحتين مراقبة واقع المخيم، يرى الفقر والجوع والبرد الذي يغزو منزلهم ومدرستهم على حد سواء. كما يراقب المجتمع من حوله، و يلازم ابن عمه إبراهيم في عمله ودراسته ورحلته النضاليّة.
وينظر الراوي إلى إبراهيم وإلى كلّ ما يمثّله بعين الإعجاب، فبرغم أنّ إبراهيم لا يشتبك مع قوّات الاحتلال مباشرة ولا يستشهد إلّا في نهاية الرواية، إلّا أنّه يعرف مصيره منذ البداية، ويسعى إليه، ولا يثنيه عن ذلك حتّى زوجته وأطفاله؛ ويبدو أن السنوار حاول أن يصور إبراهيم على أنه نموذج الفرد الفلسطينيّ الّذي يطمح الكاتب إلى أن تنتجه “حماس”، والّذي سيحقّق أهدافها المتمثّلة في صنع المصير، وتحقيق الكيان السياسيّ للفلسطينيّين.
إذ نجد أحمد في الرواية يقول، “في كلّ يوم، كان إبراهيم يزداد في نظري سموًّا واحترامًا؛ فهو الّذي تربّى يتيمًا من أبيه الّذي استشهد وهو في الرابعة من عمره، ثمّ تركته أمّه وهو لا يزال صغيرًا، وتربّى بيننا، وقد أصبح رجلًا عصاميًّا، وقائدًا حقيقيًّا رغم صغر سنّه وصعوبة الظروف تحت الاحتلال”.
تستمر تفاصيل حياة أحمد وأسرته في التتابع، لتأخذنا إلى عمق معاناتهم اليومية في مواجهة القهر والفقر، تلك الحياة التي قاوموها بتعليم الأبناء حتى حصلوا على شهادات جامعية، وبالانخراط في صفوف المقاومة، مستندين إلى المبادئ التي غرسها أخوه الأكبر محمود.
فقد قال محمود ذات يوم: “إذا تحقق عزم الرجال واستعدادهم للموت، فإن شيئًا لا يمكن أن يقف في وجههم، ولابد للنصر أن يكون حليفهم”
من خلال هذه الأسرة وجيرانها، وسكان مخيم الشاطئ، بل وامتدادًا إلى بقية غزة والضفة الغربية والشتات الفلسطيني في الأردن ولبنان، ترسم الرواية صورة تسلسلية لوقائع القضية الفلسطينية.
لا تكتفي الرواية بتقديم صورة المجتمع العادي فقط، بل تفتح الأبواب على زعماء القضية الكبار الذين ورد ذكرهم فيها، أمثال ياسر عرفات، أحمد ياسين، وأحمد جبريل. كما تسلط الضوء على القوى السياسية والنضالية التي حملت عبء القضية على أكتافها، من حركة فتح وحركة حماس إلى الجبهة الشعبية.
ومع تطور السرد، نُحاط علمًا بالتنوع الأيديولوجي للشباب الفلسطيني، الذي انقسم بين القومية، اليسارية، والإسلامية. هذا الانقسام الذي لم يتوقف عند النقاشات، بل امتد إلى جدالات ومواجهات حادة داخل المدارس والجامعات وحتى في السجون.
ومع ذلك، وفي ظل القهر المشترك، تحولت السجون إلى مدارس تعليم السياسة وتاريخ فلسطين، حيث وجد الفلسطينيون في المحن المشتركة قوة تدفعهم نحو الوحدة والتقارب، متجاوزين الخلافات في وجه عدو مشترك.
كيف تصبح مقاوم نبيل؟
بجانب ذلك تُعْنى الرواية بالتنويه بشكل خاصّ لمرحلة التربية والإعداد في تاريخ نشأة “حماس”؛ إذ معاني كالزهد والتضحية والفداء ونقائضها حاضرة بوضوح في حياة الشخصيات ونقاشاتهم ومنعطفات حياتهم.
التضحية والخلاص الجماعي
إذ يدرك إبراهيم في الرواية منذ سن مبكرة حاجته إلى المال لمواصلة دراسته وتدبير أمور حياته، فيتعلم فنون البناء بمرافقة صديق محترف في تلك الصنعة. و سرعان ما يتقن إبراهيم العمل، ليصبح هو نفسه مقاولاً يتولى المشاريع. وعندما يتخرج من المدرسة الثانوية، يتخذ قرارًا حاسمًا برفض السفر إلى الخارج للدراسة، بل حتى يرفض الذهاب إلى “جامعة بيرزيت” في الضفة الغربية، ويختار الدراسة في “الجامعة الإسلامية” في غزة، رغم أنها في تلك الفترة لم تكن حتى تملك مبنًى خاصًا بها.
و كان قرار إبراهيم محط استنكار من زوجة عمه، التي كانت ترى أن “الجامعة الإسلامية” لا تصلح حتى كمؤسسة تعليمية مقارنة بالجامعات الأخرى، وتحثه على أن يسلك طريق أبناء عمه الذين درسوا في الخارج. لكن إبراهيم، بوعيه الاجتماعي والاقتصادي، اختار الجامعة الإسلامية لأنها كانت تكلف نصف ما تتطلبه الدراسة في “جامعة بيرزيت”، ناهيك عن كلفة الدراسة في مصر.
ورغم الحصار الذي فرضه الاحتلال على الجامعة ومحاولته منع البناء فيها، إلا أن الإرادة الجماعية للعلم والتعليم كانت أقوى من أي عقبات. إبراهيم، ومعه أحمد والعديد من زملائه، بدأوا الدراسة في خيام وعرائش مصنوعة من سعف النخيل. وبدلاً من أن يكون مجرد طالب، “إذ بإبراهيم يتحوّل من طالب وناشط إلى مقاول؛ إذ انهال هو وعدد من الطلّاب المحترمين والمئات منّا يساعدونهم في بناء قاعات دراسيّة… هكذا فرض الأمر الواقع على الاحتلال”.
يختار إبراهيم أن يضحي بخلاصه الفردي لصالح عائلته ومجتمعه و يستثمر ماله في الجامعة الإسلامية، ويدّخر ماله لشراء سيّارة يستعملها في نشاطه السياسيّ والنضاليّ؛ بل يدخر جهده وطاقته لبناء الجامعة وتشييدها حتّى تصبح جامعة حقيقيّة بالمستوى المطلوب.
الخلاص الفردي والخيانة
علي النقيض نجد حسن شقيق إبراهيم، سعى حسن نحو خلاص فردي، فلجأ إلى “تل أبيب” ليعيش في كنف فتاة إسرائيلية ويعمل في مصنع والدها. إلا أن هذه الحياة لم تدم طويلاً؛ فقد انهارت تجارة والد الفتاة، وطُرد حسن من الشقة التي كان يسكن فيها، ليجد نفسه مجبرًا على العودة إلى غزة والمخيم.
لكن حسن، الذي كان دائمًا ميالاً لتحقيق خلاصه الشخصي بأي ثمن، لم يعد إلى حياة المقاومة أو الإصرار على تحمل المسؤولية، بل انزلق إلى العمالة وخيانة مجتمعه. اختار أن يعمل كعميل للاحتلال، محولاً طريقه إلى طريق الفساد والخيانة جالباً للبلد والقضيّة الخراب والإسقاط والتدهور السياسيّ.
فوجد إبراهيم نفسه في مواجهة عواقب أفعال أخيه، واضطر لمواجهة الألم الذي سببه لحياته وللعائلة التي كانت تضع النضال والشرف في مقدمة أولوياتها.
في أحد الأيام، يُفاجأ أحمد وهو يتفحص أوراق إبراهيم بتقرير استخباراتي محكم حول أخيه حسن. يدهشه مدى دقة هذا التقرير، فيقول أحمد: “التقرير ليس شغل أولاد أو أصحاب، هذا شغل ناس تعرف ما تفعل”.
هذا التقرير يكشف له وجود جهاز استخباراتي فلسطيني متطور بناه المقاومون، من بينهم إبراهيم نفسه. كان لإبراهيم علاقة مباشرة بمشكلة خيانة أخيه حسن، مما دفعه لبناء نظام أمني كامل يستهدف العملاء ويكشف طرق عملهم، ويضع أساليب لمجابهتهم دون أن يشعر العدو بوجود هذا الجهاز.
إبراهيم، الذي كان مدفوعًا بعار خيانة أخيه وحبه لوطنه، وجد نفسه في مواجهة مؤلمة مع حسن. في نهاية المطاف، قرر إبراهيم إنهاء حياة أخيه الذي أصبح رمزًا للفساد والعمالة. لكنه بفعل خبرته الأمنية الدقيقة، نفذ هذا الفعل دون أن يترك أي دليل يدينه، محققًا العدالة بهدوء وخفاء، مستمرًا في مسيرته النضالية دون أن يُكشف أمره.
الزهد
الرواية لا تخلو من جوانب إنسانية دقيقة، إذ يرسمها الكاتب بدقة، خصوصًا مشاعر الحب التي تأخذ مساحة خاصة في حياة الشخصيات. يتحدث الراوي عن إحساسه بالحب: “كان يغمرني بشعور من الراحة… هل هذا هو الحبّ؟ (…) اكتفيت فيما بعد بترقّب خروجها إلى الجامعة لأراها من بعيد؛ غير طامح في أكثر من ذلك، ولا حتّى في النظرة فيكفيني أنّني أحببت، ويكفي أنّها فهمت ذلك جيّدًا”. فيكتفي أحمد بمعرفة الحبّ في دنياه، ويؤجّل حصوله عليه إلى حينه، إن أصبح قادرًا على خطبتها كما “تربّى منذ طفولته”.
ثم يأتي إبراهيم ليكشف لأحمد أنه أيضًا قد عرف الحب، لكنه اتخذ قرارًا مختلفًا حياله، إذ يقول لأحمد؛ أنه “يتحوّل إلى سوط يكوي به الاحتلال ظهور المتحابّين. يا أحمد، حين تستخدم هذه العلاقة الشريفة المقدّسة بيد العملاء ورقة ضغط على العشّاق؛ لإجبارهم على ترك معشوقتهم الأولى القدس، هل يظلّ في حياتنا متّسع للحبّ والعشق؟”
ويقول
بعد نقاشهما عن الحب، يكتشف إبراهيم حقيقة صادمة، أن أعز أصدقائه وشريكه في قيادة الحركة الطلابية، فايز، كان عميل للاحتلال.
في لحظة من التأمل العميق، يُلخّص إبراهيم المشهد المعقد للعلاقات الإنسانية تحت ظل النضال والصراع: “هل يجوز لمثلنا، ونحن نعيش هذه الحياة، ونرى ما نرى، أن نحب ونعشق يا أحمد؟ قصتنا قصة فلسطينية مريرة، لا مكان فيها لأكثر من حب واحد وعشق واحد”.
في مشهد آخر للحث على الزهد، يظهر الشيخ أحمد وهو يحذر شباب المخيم من إضاعة الوقت في اللهو غير المفيد، داعيًا إياهم إلى الصلاة والتعبد والتأمل. يربط بين ذلك وبين مستقبل الإسلام في فلسطين، حيث يجب أن تعلو رايته. يقضي الشيخ سنوات في تربية هؤلاء الشباب على القيم الإسلامية، مشجعًا إياهم على الزهد والترفع عن الدنيا، ليخلق جيلًا قادرًا على التضحية والفداء في سبيل الوطن والدين.
وفقاً لبعض النقاد تسلط رواية “الشوك والقرنفل” الضوء على المفاهيم العميقة التي يزرعها الكاتب في بنيان الشخصيات، مثل الزهد والتضحية والفداء، إلى جانب الوعي الأمنيّ الذي يتم غرسه في الأفراد، والذي يولد لديهم دافعًا داخليًا للمقاومة غير متأثر بالمؤثرات الخارجية.
و يظهر ذلك بوضوح في حوارات وجدل يبرز في مرحلة مهمة من الرواية، حين يخوض محمود، المنتمي لحركة “فتح”، نقاشًا مع ابن عمه إبراهيم حول جدوى مفهوم “التربية والإعداد” الذي تتبناه حماس كإستراتيجية أساسية.
و من خلال الأحداث في الرواية وفي الواقع، يتضح كيف نجحت هذه الإستراتيجية في إعداد جيل من الشباب القادر على مقاومة الاحتلال، مما يجعل هذا المفهوم مفتاحًا لفهم العديد من الأحداث في واقع غزة. كذلك، تقدم صورة أوضح عن عقل كاتبها يحيى السنوار وفلسفته وحركة المقاومة في نضالهم من أجل تحرير فلسطين.
هذه الرواية ربما تساعد القارئ على فهم ليس فقط الأحداث التاريخية، ولكن أيضًا التطورات السياسية الأخيرة، مثل كيفية وصولنا إلى “طوفان الأقصى”، في إطار إرادة المقاومة التي تم بناؤها على مدى سنوات طويلة من التربية والإعداد.