أميركا.. عندما تصبح الوقاحة سياسة!!
بقلم / سليم الزريعي
ونحن نتابع ما يجري في القدس والأقصى المبارك ، نعي تماما أن هذا التغول الصهيوني لجنود الكيان وقطعان مستوطنيه؛ ما كان ليكون كذلك لولا قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بحق الاحتلال في القدس الشرقية ، ونقل سفارة بلاده إليها، في تعد واضح على حق الشعب الفلسطيني مدينته المقدسة.
وهنا من المفيد أن نستذكر مواقف موظفي الإدارة الأمريكية التي رافقت اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2017 للتصويت على رفض قرار الرئيس الأميركي ترامب حول ضم القدس الشرقية للكيان الصهيوني، أن جذر هذا الانحياز الواضح والفج ضد حق الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية في القدس، إنما يكمن في طبيعة العقل السياسي الأميركي، الذي لا يرى الأشياء إلا ضمن ليس “تسليع” المواد وحسب، وإنما تسليع الأشخاص الطبيعية والمعنوية، فكل شيء في العقل السياسي الأمريكي يشترى ويباع حتى الدول.!
تهافت المنطق الأميركي
وخطل المنطق الأميركي آنذاك كشفه ضعف “ماكنة” الإدارة الأمريكية في تسويق والدفاع عن تبني قرارها حول القدس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن ضعف الحجة وعدم مشروعيتها جعلها تلجأ إلى الابتزاز والوعيد، والتعدي على أبجديات العلاقات بين الدول وقواعد القانون الدولي، فالمندوبة الأميركية وهي تُزوِّر الحقائق حول القدس؛ تدعي أن على جميع الدول الانصياع لقرار ترامب، لأنه “يعكس إرادة الشعب وحقنا أن نختار المكان الأنسب لسفارتنا”.
وتظهر الوقاحة والفجور السياسي الأميركي بأشد صورها تهافتا في القول: “إن قرارات ترامب تعكس إرادة الشعب الأمريكي”، هنا يظهر بؤس القياس الأميركي، لأن قرارات ترامب يجب أن تكون على قضايا تخص أميركا، وليس على ما يخص الآخرين، وضد القرارات الدولية والقانون الدولي، كون قرار الرئيس الأميركي هو في الجوهر تعد موصوف على قرارات الهيئات الدولية والقانون الدولي حول القدس التي كانت الولايات المتحدة جزءا منها.
غير أن هذا السلوك الأمريكي الذي انفجر في وجه الجميع، كشف فجاجة هذه اللغة التي تعبر عن جوهر السياسة الأميركية، بحيث لم يجرؤ حتى أقرب حلفاء واشنطن على تسويغ تلك السياسات الصادمة، فكيف الحال ببقية دول العالم ؟!
حالة انعدام وزن
وبدا واضحا أن تعبيرات وتجليات السياسية الأميركية التي سبقت تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة، على رفض قرار الرئيس الأميركي ترامب بضم القدس الشرقية للكيان الصهيوني، اتسمت بحد عال من العناد والتعالي؛ والتعامل مع الأمم المتحدة كأنها مشروع أميركي خاص.
ويمكن قراءة ذلك في تصريح المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة التي قالت: “عندما ننفق بسخاء على الأمم المتحدة نتوقع منها أن تنصاع إلى قرارنا بشأن القدس”.
والمندوبة الأميركية التي ترجع أصولها إلى بلاد المهاتما غاندي وهي تستحضر مفهوم ” الانصياع”، الذي تجاوزه العالم منذ عقود طويلة، كونه لم يعد ضمن المفردات المستخدمة في السياسية الدولية، إنما تُعيدنا إلى تلك الحقب من التاريخ التي تجاوزها العالم.
فمفردة ” الانصياع” تحمل مفهوما عدائيا؛ خاصة إذا صدر من دولة ضد دولة أو دول أخرى، بعكس حالة الانصياع التي تقررها المؤسسات الدولية عبر قرارات دولية ملزمة، والمشكلة على ما يبدو أن الإدارة الأميركية وضعت نفسها فوق دول العالم، وأن من حقها أن تقرر بشأنهم ما تريد، بما يعنيه ذلك من مصادرة لحرية دول العالم في تقرير سياساتها، ومع ذلك غاب عن البعض أن هذا السلوك طالما كان حاضرا في السياسة الأميركية، كونه يعبر عن طبيعة العقل السياسي الأميركي في نظرته للعالم ودوله.
وفي أن تجرؤ المندوبة الأميركية على استخدام مفردة ” الانصياع” فإنها تكشف إلى أي حد بلغ التعالي الأميركي الذي تعدى كل ما هو مستقر في السياسية الدولية، من أن الدول المستقلة؛ هي وحدها من يقرر سياساتها وقراراتها بدون وصاية من أي دولة في العالم عليها مهما كانت قوتها.
وأي تدقيق في مضمون هذا التطاول الأميركي الذي جاء في موقف الرئيس الأميركي وممثلته في الأمم المتحدة ، إنما يشير بوضوح إلى هذا الكم من الاستهانة بالآخرين التي تجاوزت كل معايير العلاقات بين الدول، وهي الاستهانة التي ربما تدفع بالبعض إلى الشك في أن إدارة ترامب تنوي إعادة العالم إلى ما قبل عصر التنظيم الدولي، الذي كان ظهوره الأول في عصبة الأمم، ثم في الأمم المتحدة التي قررتها موازين القوى في الحرب العالمية الثانية، من خلال تكريس سياسة الفرض بالقوة المادية أو المعنوية بإدارة الظهر لميثاق الأمم المتحدة وقرارتها عندما لا تروق لها، الذي كشفه وَعِيد المندوبة الأميركية، خاصة لتلك الدول التي تمنحها واشنطن مساعدات بعدم التصويت بما يخالف الموقف الأميركي وإلا تعرضت للعقوبات، في إنقاص مفضوح من استقلال تلك الدول.
وهو سلوك يكشف إلى حد بعيد؛ الهدف الحقيقي من المساعدات الأمريكية للدول؛ باعتبارها إذا جاز القول، شراء آجل أو عاجل لمواقف تلك الدول، كي تكون في خدمة السياسة الأمريكية حين الطلب.
عالم متعدد الأقطاب
ولا يمكن توصيف هذا الموقف الأميركي إلا أنها وقاحة ، في ظل القصور في رؤية أن العالم يتغير، وأن واشنطن لم تعد هي من يقرر سياسات العالم، في ظل تبلور ميزان قوى جديد سيتجاوز فيه العالم مرحلة الأحادية القطبية التي تبلورت بعد الانهيار الذاتي للاتحاد السوفيتي نهاية العقد الثامن من القرن الماضي إلى عالم متعدد الأقطاب ، وفي مجريات هذا التحول؛ جاء قرار ترامب حول القدس، والموقف الدولي المعارض له بهذا القدر أو ذاك كمتغير صادم، لم يستطع العقل السياسي الأميركي استيعابه، وصَدْمة الاكتشاف الأميركي جعلت الإدارة الأميركية تصر على التمسك بوهم أنها ما زالت هي القوة التي تقرر السياسة الدولية بمفردها، دون رؤية هذه التحولات الكبرى التي تحدث حولها.
وأمام قصور الإدارة الأميركية الترامبية في استيعاب ذلك ، جرى استحضار كل هذه السلوك المجافي كأحد تجليات مفردات القوة الأميركية التي طالما تم تغليفها بقدر من القوة الناعمة والعنفية ضمن وعاء دبلوماسي، حتى انفجرت بهذا الشكل الوقح، وهو أمر يعود لطبيعة الرئيس الأميركي الشخصية الذي شعر أنه يقف في جانب والعالم في جانب آخر، حتى بدا أنه أفسد عليه وهم بأنه حاكم العالم ، جراء هذا الكم من الرفض ؛ بل والنقد العالمي حتى من أقرب حلفائه.
هنا تجلت الوقاحة الأميركية في هذا السلوك الذي يتجاهل أن حقائق التاريخ في القدس أو في فلسطين بشكل عام، التي لا يمكن أن تغيرها أو تطمسها أو تقررها سياسات الإدارة الأميركية، رغم خلل ميزان القوى في اللحظة الراهنة.
ومع ذلك فإنه يمكن للمراقب في هذا الخضم أن يلحظ أن قرار الرئيس الأميركي ترامب حول القدس وما أثار من تداعيات من قبل الجانب الفلسطيني والعربي والإسلامي رغم كل الملاحظات المسجلة عليه، كان كاشفا ليس عن موقف أميركي معاد لحق الشعب الفلسطيني كان معروفا لكل من يريد أن يقرأ ذلك، ولكن أيضا في تسجيل سابقة سياسية، تؤشر إلى إمكانية جدية لوضع حد لمرحلة أن السياسة الأميركية هي وحدها من يقرر سياسات العالم .. وهو أمر يحتاج من دول العالم البِناء عليه، حتى يستوعب العقل السياسي الأميركي ذلك، ويتصرف على ضوئه.. وهذا فيما نعتقد هو الوجه الإيجابي لقرار الرئيس الأمريكي بكل التداعيات التي أعقبته.