الكيان الصهيوني.. وهندسة سوريا ديموغرافيا وجغرافيا

سليم الزريعي
بين الغارة التي استهدفت إحدى سفن أسطول الحرية، التي تحمل مواد إغاثة إلى منكوبي غزة، على بعد آلاف الكيلومترات بالقرب من جزيرة مالطة في البحر الأبيض المتوسط، وأمام نظر دول المنطقة والعالم من جهة، وسلسلة الغارات الجوية على مواقع عسكرية سورية في محافظات ريف دمشق، وحماة، ودرعا، مستهدفة منشآت عسكرية وبنى تحتية للدفاع الجوي من جهة أخرى، إضافة إلى استهداف بيروت، واستباحة غزة والضفة، في ظل انكفاء فصائل العراق وإيران؛ اتسعت مساحة عدوانية الكيان في محاولة منه، للقول إن يده قادرة وطويلة.
لكن ألا تطرح هذه العدوانية المستمرة والواسعة من قبل الكيان، علامة استفهام حول مفاهيم طالما قللت من قدرة العدو، في خوض حرب واسعة وطويلة، وعلى أكثر من جبهة، قياسا على حروبه السابقة؟ وأنه يكفي استدراجه إلى حرب استنزاف طويلة لهزيمته، كما كان يعتقد أحد قادة طوفان الأقصى، خطأ ذلك المفهوم، بعد أن كشفت الوقائع منذ ما بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، أن الكيان الصهيوني، مارس عدوانا مستمرا على أكثر من جبهة في الوقت نفسه.. مع كل تناقضاته الداخلية، وأزمته البنيوية؟
والسؤال هو كيف حدث ذلك؟ في تقديري أن ذلك ليس بسبب قدرات العدو وحدها؛ مع أن لديه منها الكثير، ولكن أيضا بسبب ضعف إمكانيات وأداء وقرارات، الجانب الفلسطيني والعربي المعني بما جرى، التي كانت أكثرها دراماتيكية، هو انفجار فقاعة حزب الله بشكل صادم، وبشكل فاجأ العدو وحتى الصديق، حتى بات أقصى ما يريده الآن هو الحفاظ على ماء وجهه، وسلامة ما بقي منه، وهو الذي كان العدو يعتبره التهديد الأكثر خطرا على وجوده، لعلاقته العضوية مع إيران، وطبيعة حاضنته العقائدية، وهو ما جعل نتنياهو يعتبر ذلك أحد أكبر إنجازاته، وأنه المدخل لشرق أوسط جديد، متبجحا أنه ماض في مهمة “تغيير الشرق الأوسط” وأن كيانه يقود هذا التغيير المزعوم على خلفية اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
ويبدو أن هذه المساحة من العدوانية، بعد المتغير السوري العاصف في بعده الجيوسياسي بشكل محدد، وزعم نتنياهو أن الكيان الصهيوني هو وراء ذلك التغيير، قد فتحت شهية الكيان، نحو إعادة مسألة هندسة سوريا جغرافيا وديمغرافيا، إلى الواجهة، عبر استحضار خطة “أوديد إينون” مستشار شارون، وهي الخطة التي شرحها في كتاب “الأرض الموعودة: خطة الصهيونية من الثمانينيات” من مبدئين أساسيين استراتيجيين ينبغي لإسرائيل مراعاتهما: العمل على تحول “إسرائيل” إلى قوة إقليمية إمبريالية، والعمل على تحويل المنطقة برمتها إلى دويلات صغيرة عن طريق تفكيك جميع الدول العربية القائمة حاليا.
وتتضمن الخطة رؤية لتفكيك الدول العربية إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة بهدف ضمان تفوق إسرائيل الإقليمي، وركزت بشكل خاص على سوريا، مشيرة إلى ضرورة تقسيمها إلى دويلات علوية وسنية ودرزية، على غرار ما حدث في لبنان.
وقد تبرعت بعض القوى المتشددة، التي هي جزء من الإدارة السورية الحالية، للكيان الصهيوني بالذريعة التي كان يريدها من أجل الشروع في مخططه، وذلك عبر تكفير تلك القوى لكل من الطائفة العلوية والدرزية على طريق تصفية وجودها، ليجدها الكيان فرصة لتنصيب نفسه مدافعا عن أبناء الطائفتين، في مواجهة الإدارة الجديدة في دمشق، وبقرار منه؛ وليس بطلب من تلك المكونات، وهو التدخل الذي من شأنه أن يسعر التناقض الداخلي، ويفاقم العداء لتلك المكونات تحت مزاعم أن الكيان الصهيوني ينتصر لها، في حين أن الكيان أضر بها ولم يخدمها، لأنه يسعى وراء مصالحة على حساب الجميع، بما يعني استمرار الفوضى في سوريا وغياب الدولة.
وقد جاء تذرع الكيان ب”حماية الدروز” تحديدا، كونه يكتسي بعدا داخليا صهيونيا، ارتباطا بالمكون الدرزي، الفلسطيني أو السوري، الذي هو جزء من البنية الديمغرافية لسكان فلسطين المحتلة والجولان المحتل، ومن الطبيعي أن يجري استثمار ذلك في سياق مقاربة الكيان لاستراتيجية أوسع، وذلك عبر هندسة الواقع الأمني والجيوسياسي في جنوب سوريا، بهدف خدمة مصالحه، وهي المصالح التي أعيد تعريفها عقب هجوم واقعة 7 أكتوبر 2023، بكل تداعياتها على امتداد الإقليم.
هذا التدخل المكشوف ربما هو ما جعل الرئيس أحمد الشرع يناقش مع وزير أوقافه أهمية تعزيز “الخطاب الديني الوسطي” وترسيخ قيم التسامح والانتماء الوطني، عوض قيم النفي والتكفير.
والانتماء الوطني هنا، يعني مغادرة مربع تقسيم المواطنين حسب مذاهبهم، وإنما في كونهم مواطنين.. من خلال “الدور المحوري للمؤسسات الدينية في تعزيز الوحدة المجتمعية، وضرورة مواكبة الخطاب الديني للتحديات المعاصرة”.
لكن هل تستطيع الإدارة الجديدة التي تشكل وعيها على وقع فكر يكفر الآخر، أن تجعل المواطنة هي أساس الانتماء إلى الوطن؟ وأن تنزع الذرائع من يد الكيان الصهيوني، إنه تحد لإدارة الشرع، في مواجهة بناء فكري وسياسي استمر تنظيمه التعبئة به لسنوات، وهو البناء الذي لم يكن يرى في الآخر شريكا في الوطن، بصرف النظر عن مذهبة، وإنما في كونه إما مسلم وفق مسطرتهم سيقبلونه معهم؛ أو غير مسلم يجب شطبه، عوض أن تكون سوريا وطنا لكل السوريين، مهما اختلفت مذاهبهم وإثنياتهم..













