سر دفين

أغلق بابه للمرة الأخيرة، بدأ البيت يهرم كعجوز، راحت جدرانه تتشقق كمن يشيخ لوحده، الأثاث الخشبي أكله السوس، أما خيوط العنكبوت فقد تمددت و تدلت من السقف كأصابع تبحث عن شيء لتمسك به، بدت كجسر هش يربط بين الماضي والحاضر، وحدها العناكب تعرف أن هناك ما يستحق البقاء، تكدس الغبار طبقة فوق أخرى مثل صفحات كتاب لم يعد يصلح للقراءة، كل تفصيل في ذاك البيت يدب الرعب في نفس من يمر بقربه فكيف إذا تجرأ على الدخول إليه، ما من أحد يعرف متى أصبح مهجوراً، كل ما رواه الناس أن آخر ضوء انطفأ فيه في ليلة شتوية باردة ومنذ ذلك الحين و بابه لم يفتح إلا للريح…
على أحد الرفوف الخشبية المكتظة بالغبار تواجدت رسالة صغيرة مطوية ومغلفة بشريط خفيف محا لونه الزمن، بدت نظيفة نسبياً قياساً بما حولها من غبار كأن هناك أحداً يمرر لمساته عليها كل فترة ويتفقدها، لا أحد يعرف سرها، من أين جاءت ولمن كُتِبت، لم يجرؤ أحد على لمسها من المارة الذين دفعهم فضولهم إلى دخول هذا البيت رغم حالة الخوف التي سيطرت عليهم، يقال أن هناك أصواتاّ خفيفة تُسمَع حول الرسالة، قد يكون ضجيج كلماتها التي سئمت الحبس الطويل ومع ذلك بقيت في مكانها…
في إحدى الأيام حيث بدأت الشمس تتلاشى خلف الأشجار، الشفق الأحمر ينعطف على صدر السماء، توقفت سيارة من الطراز القديم أمام البيت، ترجلت منها امرأة رمادية العينين، تعيش بظلين، ظل حقيقي و ظل آخر يتبعها ببطء شديد، شعرها أسود منسدل بطريقة فوضوية لكنها مدروسة، ملابسها بسيطة لكنها باهتة، على كتفها الأيمن يبدو أثراً لندبة خفيفة غير واضحة، وأما في عينيها فلا أحد يدرك ما الأمر الذي تخفيه..هل هو دمعة مؤجلة أم سراً كبيراً، من الواضح أن الإرهاق هو جزء من هويتها، كانت تحمل في يدها صندوقاً خشبياً، تقدمت نحو الباب الخشبي المهترىء بخطوات حذرة، وقفت أمامه دون أن تخشاه، لكنها لا تعود إليه بسهولة، شيء ما يدفعها إلى الأمام وآخر يشدها إلى الخلف، وضعت يدها على قبضة الباب بأصابع مرتجفة، دفعت الباب الذي أصدر أنيناً طويلاً، أغلق خلفها بهدوء غريب ، مرت فوق عتبته بخطوة واحدة، تقدمت رويداً رويداً، بدأ الغبار يرتفع حول قدميها كأنه يستقبلها، نقلت نظرها في محتويات البيت، الأثاث الذي لم يتحرك منذ زمن، ساعة الحائط التي توقفت عقاربها عند الساعة الثامنة مساء، الجدران المتشققة، النوافذ التي عصفت بها الرياح في كل مرة تمر من خلالها، العناكب التي تحتل السقف والزوايا، وضعت الصندوق الخشبي على الطاولة، وقع بصرها على الرسالة، أغمضت عينيها كأنها تخشى شيئاً، مدت يدها ثم سحبتها ببطء، اقتربت و راحت تشم رائحة مسكونة بين طياتها، همست في داخلها:
لا أعرف إن كانت لي أم أنها لغيري…
استدارت و غادرت البيت، أغلقت الباب برفق شديد فبدا وكأنه يشكرها لأنها لم تزعج ما بقي منه…
ظلت الرسالة مكانها تنتظر من جديد، ربما ستُفتَح يوماً ما و ربما ستبقى سراً دفيناً بين جدران ذاك البيت المهجور للأبد.













