خبير اقتصادي فرنسي: دعوة ماكرون لاستفتاء حول التقاعد تعكس أزمة ثقة

أكد الخبير الاقتصادي الفرنسي ميكائيل زيمور، أستاذ اقتصاد في جامعة ليون 2، والمتخصص في قانون العمل، أن تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون عن إمكانية إجراء استفتاء حول إصلاح نظام التقاعد يمثل «تحولاً سياسياً كبيراً».
يعكس التحول حجم المأزق الذي تواجهه السلطة التنفيذية في إعادة بناء الثقة مع الفرنسيين بعد موجة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد منذ عام 2023.
وقال زيمور في تصريحات لـ”العين الإخبارية” إن “مجرد طرح خيار الاستفتاء يعني أن الإليزيه بات يدرك أن الإصلاحات لم تعد تُدار بقرارات فوقية، وأن الشرعية الاجتماعية أصبحت شرطًا أساسيًا لاستمرار أي تعديل في سياسات العمل والتقاعد”.
وأضاف أن “فرنسا تدخل مرحلة جديدة من الحوار الاجتماعي الإجباري، حيث لن تنجح الإصلاحات إلا إذا أُقرت بمشاركة القوى النقابية والبرلمانية على حد سواء”.
ماكرون يفتح باب الاستفتاء.. دون قرار نهائي بعد
في تصريحات أدلى بها اليوم الثلاثاء من ليوبليانا عاصمة سلوفينيا، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن الاستفتاء حول إصلاح نظام التقاعد في فرنسا ليس مستبعدًا، مؤكدًا في الوقت ذاته أنه لم يتخذ أي قرار بعد بهذا الشأن، وذلك عقب إعلان رئيس الوزراء سباستيان لوكورنو الأسبوع الماضي تجميد المرحلة المقبلة من الإصلاح، بحسب صحيفة “لوموند” الفرنسية.
وأوضح ماكرون أن القرار الحكومي “ليس إلغاءً ولا تعليقًا، بل تأجيلًا للمرحلة المقبلة”، في إشارة إلى رفع سن التقاعد إلى 63 عامًا ابتداءً من يناير/كانون الثاني 2027، وهو الموعد الذي تم تأجيله إلى يناير/كانون الثاني 2028، مشيرًا إلى أن التمويل سيتم من خلال إجراءات تقشف وتوفير في النفقات.
وأضاف ماكرون: “الاستفتاء يظل ممكنًا من حيث المبدأ، لكن يجب أن نحدد أولاً موضوعه بدقة”، لافتًا إلى أن أي خطوة في هذا الاتجاه “لن تُتخذ إلا على أساس اتفاق مسبق بين مختلف الأطراف”.
الرئيس الفرنسي يدعو إلى “نقاش هادئ”
وفي مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء السلوفيني روبرت غولوب، شدد ماكرون على أن مسألة الشيخوخة السكانية والتوازن المالي لصناديق التقاعد تحتاج إلى “نقاش هادئ ومسؤول”، وليس إلى “مقايضات سياسية مرتبطة بالموازنة العامة”.
وأشاد الرئيس الفرنسي بمبادرة رئيس الوزراء لإعادة فتح باب الحوار مع النقابات وأرباب العمل، داعيًا إلى “مرحلة من الاستقرار السياسي والنقاشات المالية الهادئة التي تضمن استمرارية الدولة”. وختم بالقول: “على هذه الأسس، سنرى لاحقًا ما هي المسارات التي يمكن اتباعها”.
سنوات من الجدل والتعبئة الاجتماعية
وأشار زيمور إلى أن جذور أزمة التقاعد في فرنسا تعود إلى عام 2023، حين أقرت حكومة ماكرون قانونًا مثيرًا للجدل يقضي برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا دون تصويت برلماني مباشر، عبر تفعيل المادة 49.3 من الدستور، ما أثار احتجاجات واسعة في المدن الفرنسية، موضحاً أنه منذ ذلك الحين، تحوّل التقاعد إلى رمز للأزمة الديمقراطية التي يعيشها النظام السياسي الفرنسي.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن النظام الفرنسي للتقاعد يعاني عجزًا متزايدًا قد يصل إلى 15 مليار يورو بحلول 2030، ما يدفع الحكومة إلى البحث عن حلول تمويلية جديدة، بينها رفع سن الإحالة إلى التقاعد وتأجيل بعض المزايا المالية.
لكن النقابات ترى أن المشكلة لا تكمن في سن التقاعد بل في توزيع الثروة والعدالة الضريبية، حيث إن العمال وأصحاب المهن المتعبة يدفعون الثمن الأكبر من هذه الإصلاحات، فيما تُستثنى الفئات العليا نسبيًا من أعباء إضافية.
البرلمان يناقش موازنة 2026.. وخطة التوفير محل جدل
وفي سياق متصل، يشهد البرلمان الفرنسي نقاشًا حادًا حول موازنة عام 2026، بعد أن رفض النواب مقترحًا يهدف إلى إلغاء أحد أهم أدوات الادخار التقاعدي في فرنسا، وهو خطة الادخار التقاعدي.
وكانت أحزاب اليسار، وعلى رأسها حزب فرنسا الأبية، قد وصفت هذا النظام بأنه “رأسمالية مقنّعة تفيد الأغنياء أكثر مما تفيد الطبقة المتوسطة”، بينما دافع الائتلاف الرئاسي عن الخطة معتبرًا أنها “من بين الحلول القليلة التي تُمكّن الفرنسيين من تأمين دخل إضافي بعد التقاعد”.
ويبلغ عدد المستفيدين من خطط الادخار التقاعدي في فرنسا أكثر من 11 مليون شخص، بإجمالي أصول تُقدّر بنحو 119 مليار يورو، بحسب بيانات وزارة الاقتصاد الفرنسية حتى فبراير/شباط 2025.
الاستفتاء ليس حلاً سحريًا
وأشار الخبير الاقتصادي الفرنسي إلى أن طرح خيار الاستفتاء “قد يُعيد بعض الثقة المفقودة”، لكنه “لن يحل التناقض العميق بين النموذج الاجتماعي الفرنسي القائم على التضامن، وبين التوجه النيوليبرالي المتصاعد داخل الدولة”.
وأضاف: “الفرنسيون لم يرفضوا الإصلاح بحد ذاته، بل رفضوا طريقة فرضه من الأعلى. الاستفتاء سيكون اختبارًا للديمقراطية التشاركية في فرنسا، لكنه أيضًا مقامرة سياسية محفوفة بالمخاطر لماكرون شخصيًا”.
بين الإصلاح والتحدي السياسي
وتبدو دعوة ماكرون إلى فتح الباب أمام الاستفتاء محاولة لاستعادة زمام المبادرة السياسية بعد عامين من الاحتجاجات والتوتر الاجتماعي، لكنها أيضًا اعتراف ضمني بأن معركة التقاعد لم تُحسم بعد.
ومهما كانت نتيجة النقاشات المقبلة، فإن فرنسا تقف اليوم أمام خيارات صعبة: إما تعديل نظامها الاجتماعي العريق بما يتناسب مع تحديات الشيخوخة والعجز المالي، أو المخاطرة بتفاقم الشرخ بين الدولة ومواطنيها.













