“إعلان نيويورك”.. بين الدولة الافتراضية والدولة المطلقة

سليم الزريعي
فيما يواجه أهل غزة واقعا إنسانيا غير مسبوق على مدى سنتين، من حرب الإبادة عبر أدوات القتل الصهيونية برا وبحرا وجوا، وما تفتق عنه ذهن هؤلاء النازيين من استخدام التجويع سلاحا ببشاعة غير مسبوقة، وفيما الضفة الغربية بما فيها القدس والأقصى، يعيشون تنكيلا فاشيا من قبل جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه، يأتي “إعلان نيويورك” حول حل الدولتين، ضمن تحرك قادته فرنسا والعربية السعودية، ضمن مقاربة تقول إن أمن الكيان الصهيوني يصنعه السلام، من خلال الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة، تعيش إلى جانب الكيان، ومما أعطى الإعلان بعدا احتفاليا، هي موجة اعترافات أوروبية متسارعة بالدولة الفلسطينية، وهو الاعتراف الذي اعترته منظمة التحرير الفلسطينية خطوة تاريخية طال انتظارها. لكن السؤال الجوهري: هل نحن أمام اعتراف بدولة حقيقية، أم مجرد إشهار لدولة افتراضية بلا سيادة ولا أرض، حتى الآن؟
استدارة أوروبية
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن اعتراف فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن وعدد من الدول الأوروبية شكل متغيرا غير مسبوق بالمعنى السياسي والقانوني، وهو من جانب آخر شكل كسرا ولو جزئيا لحالة تبعيتها الطويلة للولايات المتحدة في هذا الملف. وهو الاعتراف الذي ربما لم يأتِ من فراغ، حيث يحضر البعد الآخر ذو المرجعية الأخلاقية وراء الموقف الفرنسي، جراء بشاعة ما يجري في غزة، الذي هو كما نعتقد، محاولة باريس التكفير عن تاريخ محمل بعبء الدعم العسكري والسياسي للكيان الصهيوني بدءا من العدوان الثلاثي، مرورا بتمكين الكيان من أسباب القوة، ثم ثالثة الأثافي، المساهمة في بناء قوة الكيان النووية، في ظل تجاهل متعمد لحقوق الشعب الفلسطيني. لكن ما يحسب لفرنسا وأوروبا مع ذلك، هو هذا التحلي بالشجاعة، وتحدي الوعيد الأمريكي والتهديد الصهيوني الوقح.
قيود الاعتراف
لكن بعد استنفاد حالة الترحيب والاحتفاء بـ”إعلان نيويورك” من قبل الجانب الفلسطيني الذي فوجئ بهذا المتغير التاريخي كما يقول، فإن تفكيك تفخيخ هذا الإعلان يكشف معطيات مختلفة، ذلك أن المبادرة تحدّد مضمون بنية الدولة المقترحة، كدولة دون أنياب أو حتى أظافر، والهدف من هذه المواصفات التي تنسف في الجوهر قيمتها كدولة ذات سيادة، وهو للمفارقة كي ترضي الكيان الصهيوني الدولة النووية، وأحد موردي الأسلحة إلى العديد من دول العالم، وبالطبع دون اعتبار إلى حاجة الفلسطينيين في دولتهم إلى الحماية الذاتية، الذين هم منذ قرن من الزمان ضحية استعمار كولنيالي قادته الحركة الصهيونية والدول الاستعمارية الغربية والمسيحية الصهيونية، لذلك يبدو نوعا من الفنتازيا الحديث عن دولة لشعب هو في الأساس ضحية ثم تتركه أعزلا، في مواجهة كيان عدو لا يعترف بوجود هذا الشعب ابتداء، وفقا لخرافته “أرض بلا شعب”، عبر النص على نزع سلاح أهل غزة وتسليم كل أدوات المقاومة للسلطة التي لا تؤمن بالكفاح المسلح، والأنكى من كل ذلك هو أن هذه الدولة ستكون بعد كل هذه التضحيات دولة تحت الوصاية أكثر منها دولة ذات سيادة.
الدولة الافتراضية مقابل الدولة المطلقة
لكن حتى لا يذهب البعض بعيدا في أوهامه بالخلط بين الاعترافات بالدولة، التي هي حتى الآن معطى افتراضي لدولة افتراضية وليست واقعية، مع أهمية هذا الاعتراف الذي يأتي بالضرورة على حساب السردية الصهيونية والأمريكية، ذلك أن التناقض الجوهري هنا والحال هذه: هو أن هناك اعترافات بحق الفلسطينيين في دولة ، لكن هذه الدولة وحتى إشعار آخر هي دولة “افتراضية” على الورق، في حين أن الواقع يقول إن الأرض محتلة، وهي محل تغول قطعان المستوطنين سرقة وقضما وتعديا بحماية جيش الاحتلال، أما الدولة التي هي من حق الفلسطينيين شرعيا وقانونيا فهي “الدولة المطلقة”، أي غير المقيدة يشروط مصالح الآخرين، أو وصايتهم، التي يملك فيها الشعب الفلسطيني أرضه ويصون سيادته دون منازع، من القدس إلى غزة. وربما من المفيد التذكير هنا، أنه سبق لمنظمة التحرير أن أعلنت الاستقلال عام 1988 من الجزائر، ونالت اعتراف عشرات الدول، لكن ظلّت السيادة بعيدة المنال.
التحدي الواقعي
وعلى ضوء كل ذلك يمكن التقدير أن القيمة الحقيقية لأي اعتراف تكمن في تمكين الفلسطينيين من السيطرة على أرضهم، لا في بيانات تُتلى في قاعات المؤتمرات. بينما الاحتلال الصهيوني، بغطاء أمريكي، يواصل قضم الضفة ومصادرة القدس، ويحاصر غزة حربًا وتجويعًا. ما لم تتحوّل الاعترافات إلى ضغط فعلي وعقوبات صارمة تجبر كيان الاحتلال على الانصياع للشرعية الدولية التي جوهرها قرار الأمم المتحدة رقم 194 حول حق العودة، فإن “إعلان نيويورك” لن يتجاوز كونه وثيقة أخرى تُضاف إلى أرشيف طويل من مئات القرارات المؤجّلة منذ عام 1947.
وأخيرا
يجب أن يعي الفلسطينيون وكل من انتصر لهم إنسانيا وقانونيا، كشعب يستحق الإنصاف على امتداد الكرة الأرضية، أن الاعترافات ليست في اهميتها المعنوية، ولكن في ترجمتها إلى وقائع، عبر تجسيد الدولة الفلسطينية الحرة كاملة السيادة على الاراضي الفلسطينية ضمن حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين وفق القرار 194، ذلك أن الشعب الفلسطيني، يستحق أن يعيش في وطنة وله دولته الحرة المستقلة، لأنه لن يقيل بعد تضحيات قرن من الزمان، أن يتحول إلى شعب زائد عن الحاجة”، وإذا لم تتحقق دولته المطلقة، فإن هذه الاعترافات، ستبقى في نظره مجرد حرث في البحر ليس إلا.